وما صبابة مشتاق على أمل من اللقاء كمشتاق بلا أمل
(المتنبي)



1


اكتمل عقد من السنين على غياب صديق. الأرقام المدوّرة مع صفرها السحري تحضّ على الاستعادة. سيكون في وسعنا إذن أن نُشهر ما كنا نقوم بتربيته في الخفاء أو خلسة أو أيضاً في ثنايا عبارات هي تمارين على التذكر والتحسّر وتدجين الألم والخسارة. وهذا ما يتلخص لغوياً في ثباتنا، منذ رحيله، على استخدام فعل الماضي خصوصاً الماضي الناقص: كان...
ما كنا نتمرّن عليه طوال عقد من الزمن ليس سوى محاولات للتخفف من وطأة غيابه الثقيل الملقى على أكتافنا.

فقد ترك هذا الغياب، في قلبي وفي قلوب آخرين ممن لا يشاطرونه الرأي والموقف والمقاربة، نشيجاً يخفت مع مرور الوقت. هذا النشيج الخافت يصلنا دورياً. في اليقظة حيناً، وفي النوم حيناً آخر، وفي ما بينهما حيناً ثالثاً. لنقل إنّ السنوات العشر أو العشرية الأولى لغياب جوزف تصلح كرقم حسابي ومعياري لقياس المدة الزمنية لرحيله. الزمن المعياري هذا يسوّغ بطبيعة الحال واحداً من أبرز طقوس استحضار الموتى الذين نحبهم أو نعلي من شأنهم بحيث يتوجب نقلهم من الماضي إلى الحاضر: طقس الاستذكار أو إحياء الذكرى. غير أن هذا الزمن لا يتطابق مع الزمن النفسي، أو العاطفي، للشعور الفردي بالفقدان والافتقاد. أحسب أن العديد من محبي جوزف، وهم كثر، رفعوا وسيرفعون يدهم بطريقة آليّة لوضعها على الرأس وحكّ الشعر حكّاً خفيفاً. سيُرفقون هذه الحركة التلقائية، لدى التنبّه إلى مرور عقد من السنين، بعبارة من نوع: يااااه، لقد مرّت عشر سنوات على وفاته.



2


بعد مرور نيف وعام على صدور جريدة «الأخبار»، أي قبل تسع سنوات تقريباً، طلب مني مدير التحرير آنذاك، العزيز خالد صاغية، المشاركة في ملف يتوخى تقديم تقويم أو مقاربة نقديين لتجربة الجريدة.
لم أستطع إكمال المقالة التي كنت قد شرعت في كتابتها. فقد كان من الصعب أن أفصل بين الجريدة وقد أصبحت موضوعاً، أي شيئاً قائماً ومتحققاً خارج الروابط الذاتية ويستحق المقاربة الهادئة والباردة، وبين التحسر على شخصية مؤسسها وصائغ فكرتها جوزف سماحة، وهو بالتأكيد من ألمع الصحافيين والكتاب السياسيين في لبنان والعالم العربي. والحال أن التحسّر شعور صحراوي. بل أكثر من ذلك هو شعور بالتصحّر والجفاف الوجوديين ولا يصلح بالتالي لاستنبات شيء. خشيتي من الوقوع في المجاملة الغنائية أو على العكس في موازنة متسرعة ومزغولة بين شخصية الجريدة ما قبل وفاة جوزف وما بعدها جعلتني أحجم عن مواصلة مقالتي. مع ذلك تبادرت إلى ذهني العبارة التالية:»ستكون [الأخبار] جريدة تُشبهنا يا حسّون».
صاحب العبارة هو جوزف. وقد قالها لي، خلال فترة الإعداد لإصدار «الأخبار»، ليختصر، على طريقته المعهودة، النقاش حول فكرة الجريدة ومنظارها ووجهتها. يمكننا بالطبع أن نضع جانباً وجه الصحبة ونبرة التواطؤ الضمني اللذين تحفل بهما عبارة «ستكون جريدة تشبهنا». فالحداثة النقدية التي نقيم عليها تقتضي وضع كل أمر في نصابه المخصوص. بعدئذ نسأل الأسئلة التي تناسب مقام القول والغرض ها هنا: من نحن؟ وما نحن؟ بحيث يمكن جريدة أن تشبهنا؟.
ينطوي السؤال الأول على تعريف بمسالك ومسارات مجموعة من الأشخاص، وما اعترى هذه المسارات من التقاءات وافتراقات. وهذا قد يكون مفيداً لمقاربة طرائق في مراجعة التجارب والخوض في كيفية تشكل نماذج سلوكية وعلاقات شخصية داخل حركات سياسية وفكرية. على أن هذا الجانب، على أهميته، لا يعني كثيراً قراء الجرائد اليوم. في المقابل يكتسب السؤال معنى أكبر عندما يتعلق الأمر بتوظيف هذه التجارب ومراجعاتها داخل مشهد إعلامي لبناني يتمتع بتقاليد ليبرالية و»ديمقراطية» تبقى ملتبسة بقدر ما ترسخها توازنات الطوائف والعائلات. ومع ان هذه التقاليد لا تخفي وجه الزبائنية الريعية وضروب التملق وشراء الذمم فإن حقل اشتغالها يستحق أن يُعضّ عليه بالنواجذ لحمايته. فهو بالتأكيد، وبالرغم من الابتذال الذي يتهدده، أفضل من صحافة وإعلام خشبيين.


3


خلال السنوات العشر الماضية تساءل كثيرون، من وقت لآخر، عما كان يمكن أن يقوله ويكتبه جوزف بهذا الشأن أو ذاك. وأحسب أن هذا التساؤل راود البعض بإلحاح أكبر مع اندلاع «ثورات» الربيع العربي واختلاط سنونواته بغربانه، خصوصاً في الحالة السورية حيث تصدّع الإطار الوطني وتعاظمت الفظائع وفنون القتل والدمار وبات البلد ساحة صراع إقليمي ودولي مكشوف. وشمل مثل هذا التساؤل مثقفاً وكاتباً مرموقاً آخر هو إدوارد سعيد. في خلفية هذا النوع من استحضار الموتى المعروفين بأنهم من العارفين يكمن إقرار مسبق بأهميّتهم وبقيمة مساهمتهم المفترضة في المناظرة العامة. على أن هذا الإقرار يتوظف غالباً في خريطة اصطفافات جاهزة وصاخبة ويصب الماء في طاحونة السجال الدائر والعنيف. وهذا ما يجعل التساؤل المذكور حمّال أوجه.
في ما يخص جوزف هناك من يطرح التساؤل على سبيل التكهّن السجالي المسلّي. وهناك من يطرحه في نوع من الشماتة الاستباقية للتلذذ بصورة مفترضة، بل متوهّمة، عن حرجه وتخبطه. بين هؤلاء الأخيرين من يوسع دائرة الشماتة لتشمل جريدة «الأخبار» أصلاً وفصلاً. ومنهم من اعتبر أن الجريدة فقدت بوفاة جوزف مبرر وجودها. وهؤلاء من صنف الذين اتهموه زوراً وجوراً وإسفافاً، قبل تأسيس «الأخبار» وحين كان بعد في «السفير، بأنه المرجع الإعلامي والفكري للجهاز الأمني السوري ــــ اللبناني في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وهم ينتظرون منذ تسع سنوات إعلان وفاة «الأخبار». نأمل أن ينتظروا أكثر.
لا معنى حقيقياً للتساؤل المذكور سوى تغذية واستنباط مناسبات لسجال مقيم. مع ذلك يمكن أن نجيب على التساؤل قائلين إن جوزف كان سيعرض الموقف الذي يختاره بأناقته الروحية المعهودة وبأكبر قدر من النزاهة الفكرية واستقلالية الرأي. وهذا أصلاً ما ينطوي عليه التساؤل حتى لدى الراغبين في الشماتة والإعضال. كان «أبو الزوز» يمثّل بالفعل طرازاً خاصاً من المثقف الإعلامي.
صفة المثقف تتصل بحرصه على الخوض في الشأن العام، تاريخاً وشواغل وتطلعات وبسط الحقائق أمام أصحاب السلطة وضد مشاريع الهيمنة والسيطرة. وكان يتعهد موقعه كمثقف داخل الحقل الإعلامي الذي اختاره وتنقل بين مؤسساته وأشباه مؤسساته وبرع فيه. وكان يعلن كل مرة بوضوح عن قناعاته وعن منظاره الإنساني العريض وتشوقه إلى تثبيت العدل كقيمة كبرى في العلاقات بين الدول وداخل المجتمعات الواحدة. يكفي أن نعود إلى «توقيت صائب» وهو عنوان افتتاحية العدد الأول من جريدة «الأخبار». ويكفي أن نعود إلى كتابه «سلام عابر»الذي وصفته لدى صدوره، وما زلت، بأنه بيان ــــ مانيفست ــــ ضد العدمية السياسية الزاحفة بعد اتفاقية أوسلو. وقد امتاز بنوع من الريادية والاستكشافية السبّاقة. وهو تعهّد هذه الريادية ليس بأسلوبه وجملته القصيرة والراقصة فحسب، بل كذلك بقوة المتابعة والحدس المعرفي وسعة الاطّلاع وذكاء التحليل. السبّاقون هم أشخاص بلا ورثة: صعاليك نبلاء. ما يعنيهم هو إضاءة الزوايا المعتمة أو المحكوم عليها بالحجب والتعتيم. لا احد يرث الالتماعة.