فلينزل النعاس في عينيكِوفي فؤادك السكينة
وليتني كنت النعاس والسكينة.
(شكسبير - روميو وجوليت)


من السياج إلى شجرة السدر، ومنها عبر النافذة، استطاع حازم التسلل إلى غرف حياة في ليلة من ليالي نيسان الدافئة. وجدها نائمة على جنبها فوق السرير الخشبي، وقد دسّت يدها اليمنى تحت الوسادة، وكانت تلك عادتها منذ الصغر، كما لو أنّها تريد بذلك الإمساك بأحد أحلامها ومنعه من الطيران مع ريش تلك الوسادة.

انحنى فوقها ليطاول بأصابعه خصلة من شعرها كانت تعبث بها، وهي تفكر فيه، قبل أن يدركها النعاس وتنام. أزاحها عن إحدى عينيها، وجثا على ركبتيه بإزائها، راح يتأمل وجهها تحت ضوء شمعة وضعت على دولاب صغير بجانب السرير. قبّل أرنبة أنفها، ذلك الأنف الذي طالما تغزل به قائلاً إن الله خلقه من شمّ حواء لورود الجنّة، فأجفلت هي للحظة وفتحت عينيها. وما إن تراءى لها وجهه، حتى سارعت إلى معانقته. ثم طبطبت بيدها على المكان الفارغ على السرير، فقفز هو كهرّ سعيد واستلقى إلى جوارها، مفسحاً لها المجال لتوسّد ذراعه.
وبينما هو يحدثها همساً، وقد لا يحدث ذلك كثيراً، نامت حياة.
لم يعرف حازم أن حبيبته غفت إلا بعد انقضاء نصف ساعة، كان قد همس بخلالها في أذنيها الكثير من كلمات الحب، التي اعتاد أن يقولها كلما سنحت الفرصة واستطاع التسلل إلى غرفتها بتلك الطريقة التي لا تحدث إلا في مسرحيات شكسبير. وكانت هي تحب الإصغاء إليه، ولا تقاطعه أبداً، بل تلتزم الصمت بينما هو يردد تلك الكلمات التي يقتبسها من دواوين الشعراء، فتشعر في حينها كما لو أنها غلت في صدره طوال النهار ونضجت، قبل أن يقولها. لهذا لم يشعر بأنها نامت في تلك الأثناء.
مضت نصف ساعة أخرى، وحان موعد انصرافه، إلا أن حازم لم يشأ إيقاظ حبيبته.
قال مع نفسه:
«ما زال هناك متسع من الوقت... لن أزعجها»
كان يدس يده الأخرى تحت رأسه، ويحدق إلى الأعلى بنظرة متأملة، متفائلة، فيبدو في حينها كما لو أنه على وشك اختراق السقف بتلك النظرة الساهمة، ورؤية ما يليه، حيث السماء الشاسعة هناك، أو لعله القمر، قمر نيسان الذي يشبه وجه حياة النائمة بوداعة، أو هكذا يبدو في عينيه على الأقل، فعين الرضا لا ترى عيباً، كما يقول كاسياس في يوليوس قيصر.
«تُرى، بماذا تحلم؟»
تساءل حازم، وودّ لو يلج في حلم حبيبته ويحرسه من مداهمة الكوابيس. أحس بفرح طفولي لم يشعر به منذ أن كان طفلاً صغيراً يلوذ بحضن أمه، وعدّ تلك الساعة من أجمل الأوقات التي قضاها برفقة حياة، تمنى لو تمتد إلى أبعد من كونها ساعة من ستين دقيقة، إلى أيام وأشهر وأعوام. لكنه كان يدرك أن لا شيء من ذلك سيحصل، ولا بد أن يغادر في النهاية.
مضت ساعة أخرى وحياة ما زالت نائمة بوداعة، وثمة ابتسامة كزهرة تفتحت على شفتيها هنا، بدأت ذراع حازم تؤلمه، لكن لا يبدو أنه سيوقظها. كان يرى أن نوم حبيبته على ذراعه فرصة لن تتكرر، وحتى لو تكررت فلن تمتد لأطول من هذا الوقت. استأنس بذلك، نسي ألمه وآثر البقاء لساعة إضافية. فالشباك مفتوح والشجرة ما زالت في مكانها، والطريق سالكة إلى الأسفل، ويستطيع النفاذ في أي لحظة يشعر فيها بالخطر، رغم أن ثمة وقعاً لأقدام أحدهم صار بالإمكان سماعه من وراء باب الغرفة الموصد بالمفتاح. وهو التهديد الذي توجس حازم منه في البداية، قبل أن يزول بزوال وقع الأقدام، و يعود كل شيء إلى سكونه المعتاد، إذ لم يعد يُسمع حينئذ سوى أنفاس حياة، شهيقها وزفيرها اللذين يترددان بدعة وهدوء.
استمر وضع العاشقين على ما هو عليه حتى الفجر، عندما بدأ حازم يشعر بالإرهاق ويفقد الإحساس بذراعه. وعلى الرغم من ذلك، لم يحبذ إيقاظ حياة، فربما تلاشى حلمها وأشعرها ذلك بالحزن. ففضّل البقاء لبعض الوقت، ما دام لم يقتحم أحد خلوتهما حتى ذلك الحين، فعسى ولعل تستيقظ من تلقاء نفسها قبل شروق الشمس. كان مستمتعاً بإيثاره، ملتذاً بألمه وخدر ذراعه وتنميلها الموجع. كان يفكر أو يتخيل إلى أي حدّ سيكون ذلك مدعاة للتفاخر في ما بعد، حين سيتزوجان وينجبان ويرويان لأولادهما تفاصيل تلك الليلة التاريخية والمأثرة الرومانتيكية العظيمة.
فكر حازم في إراحة عينيه لدقائق، فأغمضهما وغفا. لم يخطر له أن الدقائق في مثل هذه الحالة قد تمتدّ إلى ساعات. لقد حدث ذلك معه مرات عديدة. كان يستيقظ من النوم ليذهب إلى الجامعة وفي عينيه بقايا نعاس يظن أن عدة دقائق إضافية من النوم ستكون كافية لتبديدها، لكنه دائماً ما يستيقظ بعد ساعات. وهذا هو ما حصل معه تماماً في غرفة حياة، عندما وقع في الفخ نفسه، واستغرق بالنوم، ليستفيق بعدها على طرق أحدهم الباب.
كانت الشمس قد أشرقت، لهذا لم يشك في أن الطارق هو أم حياة، جاءت توقظها لكي تذهب إلى الجامعة. وكان من المفترض أن يسمع صوتها وهي تنادي ابنتها من وراء الباب، وتوبّخها على تأخرها في النوم كالعادة. إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث. لم تتفوّه المرأة بكلمة واحدة تدلّ على أنها جاءت من أجل هذا الغرض. كانت تطرق. تطرق فحسب، من دون أن يفعل طرقها المتواصل فعله ويوقظ حياة التي كانت لا تزال ملتصقة بذراعه، مستغرقة في نومها العميق. حتى أنها لم تتحرك من مكانها، أو تحاول أن تغيّر من وضعها في أثناء النوم.
حاول حازم تحريك أصابع يده، لكنه لم يستطع. لقد فقد الإحساس بتلك اليد تقريباً، كما لو أن الدم تخثّر في عروقها وشلّ حركتها.
استمر الطرق، الأنثوي، الأمومي، لأكثر من عشر دقائق، قبل أن يتوقف. ويعود السكون إلى الغرفة. ذلك السكون المريب، الباعث على القلق، الذي دائماً ما يخيم على بيوت الأشباح. حرّك حازم يده الأخرى. كان على وشك أن يلامس شعر حياة، التي ما زالت تنعم بنومها العميق، والهادئ، لكنه، كالعادة، خشي أن يُفزع حلماً ربما كانت تحلم به وقتها، فعدل عن ذلك، غير عابئ بذراعه المتصلبة، التي يبدو أنها فقدت قدرتها على الحركة بشكل فعلي.
أحسّ بتسارع ضربات قلبه، وتساءل عما إذا كان خائفاً، أو أن ضغط الدم في شرايينه ارتفع خلال الدقائق العشر الماضية، وسبّب له كل هذا الاضطراب الداخلي العنيف. كره انطباعه الأول بشأن ما انتابه بينما هو يسمع الطرق على الباب، فهو لا يخاف، وطالما جازف قبل هذه المرة، ولم يشعر يوماً بأنه خائف، وسيستمر في خوض هذه المغامرة حتى تستيقظ حياة. هكذا قرر حازم، فلا بد أن تستيقظ حبيبته، لا يعقل أن تنام إلى الأبد. ستنهض وتتمطى مثل لبؤة أخذت كفايتها من النوم، تلتفت إليه وتبتسم ثم تقبّله، وتسأله عن الوقت، وحين تعرف كم تأخرت في النهوض تقفز من السرير مثل قطّة مذعورة لترتدي ثيابها على وجه السرعة، وتهرع إلى الجامعة. لكنه سيخبرها أن الأوان قد فات على ذلك كثيراً، وأن الوقت يقترب من منتصف النهار.
وفعلاً، تناهت دقات الساعة الجدارية في الأسفل إلى أذني حازم. إنها الثانية عشرة ظهراً، وحياة ما زالت نائمة.
سمع خطوات على الدرج الصاعد إلى الأعلى، فازدادت ضربات قلبه على نحو خال معه أن مضخة الدم والمشاعر تلك على وشك الانفجار.
«نعم... أنا خائف!» اعترف حازم، ثم استدرك ذلك بقوله مع نفسه: «خائف عليها».
لكنه، رغم ذلك، ما زال عازماً على عدم إيقاظها، حتى وهو يسمع اليد التي بدأت تطرق الباب حينذاك، بتشنّج وتعنيف هذه المرة، لم يخطر له أن يهزها، أو يطبطب على خدّيها، أو يرش وجهها من ماء القدح الموضوع على طاولة صغيرة بجانب السرير حتى تستفيق ويبدأ بتقريعها بقوله:
«هيا انهضي يا عزيزتي... كفى نوماً لهذا اليوم... لقد انتهت السهرة منذ وقت طويل، وها نحن على وشك أن نُقتل!».
لم يفعل حازم ذلك. لم يجرؤ على انتهاك حلمها وإزعاج نومها حتى لو اضطرّ إلى دفع حياته ثمناً لأجل ذلك. راح يترقب، منصتاً إلى الطرق المستمر على الباب، منتظراً أن ينادي الطارق باسم حياة، ويؤنبها على كسلها وبقائها نائمة حتى وقت متأخر، أو قد يدعوها إلى النزول لتناول طعام الغداء، فلا بدّ أنها جائعة، ولم تأكل شيئاً منذ عشاء الليلة الماضية. لقد خمّن حازم أن الطارق قد يكون والدها، يبدو ذلك من خلال الطرق ذي الطابع الرجولي، القاسي والخشن. على العكس من الطرق الذي كان قد سمعه صباحاً، كان طرقاً ناعماً وخفيفاً بأطراف الأصابع، استشفّ منه أن الطارق هو أم حياة. حياة التي بقيت مستمرة، بتصميم عجيب، في نومها العميق وسباتها اللامتناهي لثلاثة أيام، لم يفلح في إيقاظها شيء، بما في ذلك الطرق المتواصل، المتفاوت، حسب جنس الطارق وطباعه ودرجة قرابته منها و مدى رغبته في إيقاظها من عدمه.
وكان حازم يعتمد على حدسه، طوال الأيام الثلاثة الماضية، في تحديد هوية الطارق، يفعل ذلك من خلال تصنيف نوع الطرق الذي يسمعه في كل مرة يأتي أحدهم لإيقاظ حياة. فكان يعرف شقيقها الصغير من طرقاته الناعمة التي بالكاد تُسمع. ويعرف جدتها من طرقاتها الرفيقة الواهنة. ويعرف من الطرقات الغاضبة، الطائشة، أن ثمة أخ مرتاب، مستفز مثل ثور، يقف وراء الباب في ذلك الحين و يتساءل مع نفسه: تُرى ماذا دهى هذه الفتاة؟!
إلا أن أحداً لم يفكر في أن ينادي حياة. لاذ الجميع بالصمت، وكأنهم أصيبوا بالصمم، وأصبحوا لا يجيدون فعل شيء في هذه الحياة سوى الطرق على باب حياة النائمة.
وبالتزامن مع نهاية اليوم الثالث، عند منتصف الليل، بدأت الرائحة تفوح من جسد حياة. كانت رائحة زنخة أزكمت أنف حازم الذي ما زال مصرّاً على عدم إيقاظها. زعم أنَّ ما صار يشمه من تلك الرائحة الكريهة، رائحة التحلل المرعب، ليست سوى رائحة عطور، مسك، ريحان، أو ربما ياسمين. فمثل حياة، وهذا ما كان يؤكده مراراً، لا يمكن أن تنبعث منها سوى رائحة الورود. فأنف الرضا هو الآخر لا يشمّ سوى الروائح الطيبة، حتى وإن كانت تنبعث من جثة متفسخة. لم يزعجه انتفاخ جسدها وازرقاقه في ما بعد. ربما أرعبه في البداية أن ثمة ديداناً كريهة بدأت تخرج من تحت جلدها، لكنه اعتاد ذلك بمرور الوقت، حتى بدأ لحمها بالترهل والجفاف، وأصبحت أشبه بمومياء، جلد على عظم.
لكن حازم لم يضجر و لم يتذمر. لم تشعره عملية التفسخ الرهيبة تلك بالغثيان، أو أنه افترض ذلك وأقنع به نفسه. فقد أحبها لذاتها، وعشق روحها وكينونتها. لهذا، لا يبدو عابئاً حتى وإن استحالت تلك الحبيبة إلى هيكل عظمي بليد. وهو ما حصل في النهاية.
و كان حازم، قبل سنوات طويلة، كلما أراد أن يلمس حبيبته، أو يداعب شعرها، أو حتى يهمس لها: أحبكِ ! يعدل عن فكرته.
كان يخشى، إذا ما فعل ذلك، أن يزعج نومها ويسبّب ذلك تلاشي حلمها.
أما الآن، بعد أن تلاشى حلمها، وتحجّر في مكان ما من المجهول، فصار يخشى على عظامها أن تنهار.
فلبث في مكانه، لا يفعل شيئاً سوى الإصغاء إلى أيدي الزمن وهي تطرق باب غرفة حياة، أو ربما باب تابوتها، أو قبرها الموصد إلى الأبد.

* روائي وقاص عراقي. مجموعته القصصية الثانية «حديقة الأرامل» التي تصدر الأسبوع المقبل عن «دار سطو للنشر والتوزيع»




المساهمات الابداعيّة في ملحق «كلمات»

يمكن إرسال المساهمات الإبداعيّة (من قصص وقصائد ونصوص حرّة وترجمات وصور فنيّة ورسوم) إلى ملحق «كلمات» في جريدة «الأخبار»، على العنوان الإلكتروني الآتي:
[email protected]
على أن يرفق كل ارسال بالإسم الكامل لصاحبه أو صاحبته، وعنوان الإقامة، ورقم هاتفي لأي تواصل محتمل.
بالنسبة إلى الترجمات الأدبيّة، تعطى الأولويّة لنصوص خضعت لاتفاق مسبق مع التحرير، ويستحسن أن يكون التعريب عن اللغة الأصليّة التي كتب فيها النص. مع تعريف واف بالكاتب (ة) والمترجم (ة).
تحتفظ إدارة التحرير لنفسها بقرار نشر المساهمات المقترحة أو عدمه، من دون أي شرح أر تبرير أو مراجعة.