تتداخل سير المدن مع مصائر ناسها في رواية «العرافة» (دار الساقي) للكاتب اللبناني أحمد علي الزين، ولا سيما مدينة بيروت، إذ تمثل الرواية عرضاً سردياً لدروب التيه التي أفضت إلى فقدان المدينة وضياع عشاقها. يؤخذ الزين بالاشتغال اللغوي على السرد، ويُعرّف الراوي اللغة على أنّها «جسد المعنى»، مولياً أهمية للتفاسير اللغوية والشكلانية للأشياء، فيما بدا، في الوقت ذاته، قادراً على الوصول إلى عمقها. هكذا يتشكل نصّه عبر لغة شاعرية تقدم الأفكار من خلال جمل مباشرة، كما لو أنّ الرواية برمتها تعقيبٌ فلسفي، شفاف ومؤلم على حياةٍ مضت. يروي الزين قصة سهيل العطار، الذي ورث عن جده الاسم وصندوق العطور، وعن أبيه خصال تصفّح الكتب. علّمته والدته رسم الطيور والحروف على الفساتين، وزوجته فقه الموسيقى، وعرّافته المكر. بقي مأخوذاً بمواويل جدتهِ، وعلّمته الأيام أن يبقى مجاوراً للهامش. هذا ما أوصله في النهاية إلى غرفة في مأوى للعجزة، وهو المكان الذي تبدأ منه الرواية، قبل أن تتشعب عبر ثلاث نوافذ؛ واحدة تطلّ على قسم الأمراض النفسيّة، والثانية على المعهد الموسيقي، والثالثة، وهي الأغنى سردياً، باعتبارها تطلّ على أيامه الماضية، لتكون نافذة للهجران والحنين. يبدأ أستاذ الفلسفة بالاطلاع على أفكار الآخرين من حانة كانت تشكل ملتقى ليساريين ومثقفين، يقتل الحنين معظمهم.
بعد سنوات الحرب الأهلية، يرحل أصدقاؤه حاملين معهم الكثير من الحسرات، في حين يتركون له «الكثير من الحكايات» التي يعمل على توزيعها على الصفحات، جاعلاً من القصص الفرديّة لأصدقائه إشارات لوضع عام ممزق ومرتهن إلى مصير مكتوب وهو الخراب. يصل سهيل العطار إلى درجة يزعم فيها أنّ الشلل الذي آل إليه، كان نتيجة عجزه أمام «مطحنة القتل» إلى جانب الإحساس بالهجران. إذ إنّ الحزن هو ما شلّه والهجران أكل عمره. لكنه لا يلبث أن يعيد للفلسفة ثقلها؛ يزعم أنّ غيابها عن مجتمعاتنا جعلها مجتمعات مقعدة، ويلمح إلى حالتهِ بأنّها مجتمعات مصابة بشلل نصفي. لقد جعل من نفسهِ «وسيلة إيضاح»!
ترسم حياة العطار ثلاثة أحداث قاسية؛ الأول مقتل زوجته سلمى برصاص قناص، والثاني الاختفاء الغامض لعرافتهِ نهلة. أما الحدث الفارق في الرواية الذي كثيراً ما سيعود إليه الراوي قبل أن يصرح لنا بهِ، فهو الصفعة التي سيتلقاها سهيل من ابنهِ، ثم وضع والدهِ في مأوى الفردوس، هروباً من عجز مُهلك أصاب الرجلين. مثلت الرواية بأكملها ارتداداً مدوياً لصفعة الابن، رغم إجهاد الكاتب نفسه في تبرير عملية الكتابة، بتصويرها تخليداً للنقصان، باعتبار أنّ الأشكال الكاملة «يخلدها اكتمالها»، أو أنّه يكتب «لتصريف الأحزان» ويمارس الوهم الجميل كي تعود إليه الرغبة في العيش. لقد بدا الكاتب مرتبكاً في أسباب كتابتهِ، ولا سيما، كما يخبرنا هو، أنّ ازدهار الصورة، منذ مطلع القرن العشرين، جاء ليوثق للجريمة أكثر مما تقترحه المخيلة.

قصص تدخل لعبته السرديّة بسلاسة وإقناع
يوصي العطار بنشر مخطوطة لكتاب موجه ضد التيار التكفيري بعد موتهِ، لكن تبقى تلك الصفعة متوارية وراء الكتابة. يبرز في الرواية غنى قصصها وتنوعها؛ يمنح العطار للطالبات في المعهد أسماء افتراضية ثمّ يمنحهن سيراً افتراضية أيضاً، يبرع الزين في جعلها تدخل لعبته السرديّة بسلاسة وإقناع. إنّه يحدثنا عن عازفة الكمان التي أنقذها تاجر حلبي بعدما وجدها نائمة تحت شجرة على طريق الموصل، إثر تعرض أهلها لهجوم تكفيري. تتحوّل إلى سبيّة في طابور من النساء، ثم تغتصب، وتنجو إلى أن تصل إلى المعهد الموسيقي بجوار سهيل الذي ألف حكايتها. يحدثنا كذلك، عن قناص اختل خلال ممارسة القتل في الحرب الأهلية، بعدما اصطاد 1200 كائن من بشر وقطط وكلاب شاردة، ووثق تفاصيل القتل في دفتر وُجد معه في إحدى الخرائب. يحكي لنا سهيل العطار عن اعتقاد أحدهم بأنّه شنق والده بسلك نحاسي، وآخر يمشي مشية عسكرية ثم يتوقف لتأدية التحية لرفاقه المجانين، إضافة إلى حكايا صديقيه؛ عادل المفجوع بالأندلس، ما جعله يسلك سلوك من خسر شيئاً ضاع منه إلى الأبد، وشاعر زمان الذي كان ينزع أعلام الأحزاب ويضع مكانها «علم الوطن». لقد جعل الكاتب أبطاله في عجز تام في انتظار ما يخلصهم من سكونهم، قبل أن يتفرغ راويه، سهيل العطار، لكتابة وجعه الذاتي، اليد التي أوصلته إلى المأوى اللعين.
تنتهي الرواية عبر حدث مشرق. سيخرج سهيل وبيتر 2 وزمان إلى جانب الممرضة في جولة على بيروت، تبدو مثل تشييع للمدينة، ما نلبث أن ندرك أنّه تشييع لأبطالها. سيختفي زمان، ويتبعه كلّ من بيتر 2 والممرضة، ويبقى سهيل العطار في مقهى بحري وجهاً لوجه مع العرافة نهلة، التي كانت نبوءتها بأنّ امرأة ستسكن نصف عمرهِ الثاني أشبه بالتعويذة التي لم يتوقف العطار عن ترديدها. تعويذة جعلها الزين آليته للكتابة التي تجيء بعد الفقد، إذ كان بطله يعيش مع امرأة غائبة في مدينة تسكنها الذكريات.