يوم نجح الشعب المصري في خلع الرئيس حسني مبارك، كانت رسالة ميدان التحرير أن ما جرى في مصر ــ وقبلها في تونس ــ يمثل مرحلة جديدة تستطيع معها الشعوب العربية، إذا ما توافرت لها الإرادة الثورية أن تحقق التغيير ضد الأنظمة القمعية الحاكمة، وقد لخصها شعار ساخر يقول: "من ميدان التحرير إلى الأخوة الأشقاء العرب: في حد مضايقكم تاني نخلعه قبل ما نترك الميدان؟".
لم يتأخر تفاعل الشعوب العربية كثيراً مع الحالة المصرية. خلال الأيام الثمانية عشرة لـ"ثورة 25 يناير"، كانت ثمة "ثورة" قد انطلقت فعلاً في اليمن، وبعد السقوط المدوّي لحسني مبارك في 11 شباط عام 2011، انطلق قطار "الثورات" من ليبيا والبحرين، وصولاً إلى سوريا.
لم يدرك "ثوار التحرير" حينها أنّ رسالتهم الكوميدية إلى "الأشقاء العرب" ستنقب بعد فترة وجيزة تراجيديا عابرة للأقطار، بعدما انحرفت "الثورات السلمية" عن مسارها، وتحوّلت إلى صراعات مسلّحة، ارتدت بشكل مباشر على "ثورة 25 يناير" نفسها، بعدما انقلب مزاج الرأي العام المصري على شعار "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، لصالح عبارات تلقفتها السلطة الحاكمة، وأبرزها "عايزين نبقى زي العراق وسوريا؟".
بعد ستة أعوام على "الثورة السورية"، لا يحتاج المرء إلى بذل جهد كبير لرصد انقلاب الصورة في المزاج الشعبي المصري إزاء ما يجري في ما كان يعرف يوماً بـ"الإقليم الشمالي". اختفى الكثير من مظاهر التأييد للمعارضة السورية. لم يعد هناك وجود لخيمة المعارضين في ميدان التحرير، وتلاشى "علم الانتداب"، الذي سبق أن ألغته الوحدة المصرية ــ السورية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، قبل أن يتبناه المعارضون، بعدما كان مرفوعاً في الكثير من شوارع المحروسة.

يمكن تسجيل
أربع مراحل للتفاعل الرسمي المصري مع الأحداث في سوريا

هذا التحوّل في المزاج الشعبي يبدو، بطبيعة الحال، امتداداً للتحولات التي عصفت بالحراك الشعبي السوري نفسه، لجهة "عسكرة الثورة" من جهة، وبروز الحركات التكفيرية، بمسمّياتها المختلفة، والتي ما زال بعضها ينشط في مصر، لا سيما في سيناء، علاوة على إرث الحقبة "الإخوانية" التي تماهت معها بعض المجموعات المعارضة، لا سيما الإسلامية منها، خصوصاً بعد الدعوة الشهيرة التي أطلقها الرئيس المعزول محمد مرسي لـ"الجهاد" في سوريا، ومشاركة بعض السوريين في التظاهرات الداعمة لـ"حكم المرشد"، خلال "ثورة 30 يونيو" وما تلاها من أحداث في "رابعة العدوية" و"ميدان النهضة".
على مستوى آخر، كثيرة كانت التحوّلات في الموقف الرسمي المصري إزاء الأزمة السورية، فبين آذار عام 2011 وآذار عام 2017، تبدّلت المقاربة الحكومية للملف السوري بشكل كبير، وفقاً للظروف السياسية الداخلية.
وفي هذا السياق، يمكن تسجيل أربع مراحل للتفاعل الرسمي المصري مع الأحداث في سوريا.
المرحلة الأولى، ارتبطت بحقبة المجلس العسكري، الذي تولى الحكم في مصر، غداة تنحي الرئيس حسني مبارك (11 شباط عام 2011)، وحتى تسلم "الإخواني" محمد مرسي رئاسة للجمهورية (30 حزيران العام 2012).
خلال تلك المرحلة الانتقالية، فرضت الأوضاع المستجدة في مصر على المجلس العسكري تركيز الجهود أكثر على الوضع الداخلي، ففضل، على ما يبدو، الانكفاء عن مقاربة القضايا الخارجية، والتمترس خلف قرارات الجامعة العربية، التي انتقل قرارها إلى القطريين والسعوديين، فكانت مصر عضواً مشاركاً في اللجنة الوزارية العربية التي شكّلت في 16 تشرين الأول عام 2011، برئاسة قطر، كما شاركت في بعثة المراقبين العرب إلى سوريا (كانون الثاني ــ شباط عام 2012)، فيما سعت إلى التمايز، ولو قليلاً، في موقفها الرافض للإجراءات العقابية ضد الحكومة السورية، قبل أن تضطر للقبول بالسقف القطري ــ السعودي، لجهة وقف أشكال التعاون الديبلوماسية مع الحكومة السورية وفتح قنوات اتصال مع القوى المعارضة.
المرحلة الثانية، هي الحقبة "الإخوانية"، وخلالها اندفعت السلطة الجديدة في مصر إلى أبعد حدود، في الانحياز لمواقف القوى الإقليمية المناهضة للنظام السوري، وتحديداً قطر وتركيا، فبعد أقلّ من أسبوعين على بدء ولايته، قرر مجلس الشعب المصري تجميد العلاقات مع مجلس الشعب السوري (7 شباط عام 2012)، ومن ثم مطالبة مجلس الشورى بقطع العلاقات الديبلوماسية تماماً مع الحكومة السورية، في مقابل فتح قنوات اتصال مباشرة مع المعارضين السوريين، سواء عبر البرلمان، أو حتى على مستوى وزارة الخارجية، حيث بدأت مصر في استضافة مؤتمرات للمعارضة السورية.
وفي الخطوات الإجرائية الأخرى، اتخذت الحكومة المصرية سلسلة إجراءات دبلوماسية ضد النظام السوري، كان أبرزها استدعاء السفير المصري من دمشق في 19 شباط عام 2012،
وإنهاء مهمته في الأول من تموز عام 2012، بعد تخفيض مستوى التمثيل الديبلوماسى إلى مستوى مستشار.
لكن الأمور بلغت منحى أكثر خطورة في حزيران عام 2013، حين دعا محمد مرسي إلى مؤتمر تحت شعار "نصرة سوريا"، حضرته قيادات إسلامية، ومن بينها سلفية جهادية، وأعلن خلاله "قطع العلاقات تماماً مع النظام الحالي في سوريا، وإغلاق سفارة النظام الحالي في مصر، وسحب القائم بالأعمال المصري" في دمشق، فيما كان وزيره لشؤون الأوقاف طلعت عفيفي، يفتح باب الجهاد في سوريا "بالمال والنفس".
لم يكد يمضي أسبوعان على "نصرة سوريا" حتى انطلقت الموجة الثورية ضد حكم "الإخوان" في الثلاثين من حزيران، والتي أعقبها بعد ثلاثة أيام، تدخل الجيش المصري، ممثلاً بقائده الفريق أول عبد الفتاح السيسي، لعزل مرسي.
في تلك الفترة، قالت مصادر عسكرية مصرية إن قلق الجيش من الطريقة التي حكم بها مرسي بلغ مداه عندما حضر الأخير تجمعاً حاشداً اكتظ بمتشددين إسلاميين من مناصريه، ودعوا إلى الجهاد في سوريا، حتى أن قائد الجيش الثالث الميداني اللواء أركان حرب أسامة عسكر، كان أكثر وضوحاً في هذا الموضوع، حين قال إن الرئيس المعزول اتخذ إجراءات عدة أضرت بمصلحة البلاد والمصريين أبرزها قرار قطع العلاقات مع سوريا، من دون الرجوع الى مجلس الدفاع الوطني أو المجلس التشريعي.
في المرحلة الانتقالية، التي تسلم فيها رئيس المحكمة الدستورية المستشار عدلي منصور، مهام رئاسة الجمهورية، تراجع هامش المبادرة المصرية تجاه الأزمة السورية، كنتيجة طبيعية لانشغال "العهد الجديد" بالتطورات الداخلية، لا سيما بعد أعمال العنف التي انتهجها "الإخوان المسلمون"، وتفاقم الأوضاع الأمنية في سيناء. ولكن ثمة مؤشرات قليلة أظهرت مقاربة جديدة للأزمة السورية، أبرزها الحديث عن استمرار التنسيق الديبلوماسي بين مصر وسوريا، على المستوى القنصلي، واتخاذ القيادة المصرية موقفاً معارضاً بشدة لتهديدات الولايات المتحدة بتوجيه ضربات عسكرية إلى سوريا، على خلفية مزاعم باستخدام النظام السوري أسلحة كيميائية.
وأما المرحلة الرابعة، والحالية، فيمكن وصفها بمرحلة التحوّلات المستمرة، فمع رئاسة المشير عبد الفتاح السيسي، بدت مصر حريصة على استعادة دور مفقود في المشهد الإقليمي، سواء على المستوى العربي، أو في العمق الإفريقي. وبالرغم من أن الموقف المصري العام بدا أقرب، في مرحلة ما، إلى الخط السعودي، وهو ما تبدّى في محطات كثيرة، من بينها دعم العدوان على اليمن، والانخراط في "التحالف الإسلامي" الذي دعا إليه ولي ولي العهد محمد بن سلمان، والاصطفاف ضمن الموقف الخليجي تجاه إيران و"حزب الله"، فإن الملف السوري شكّل استثناءً، بالنظر إلى أسباب عدّة، بينها الاستراتيجي والأمني.
على هذا الأساس، لم تتردد مصر في إبداء معارضة ضمنية للمخططات السعودية في التدخل العسكري في سوريا، وذلك بعبارات دبلوماسية جاءت على لسان وزير الخارجية سامح شكري، حين قال إن "قرار السعودية يأتي وفقاً لسياساتها الخاصة"، وليس ضمن "التحالف الإسلامي". وفي المقابل، أبدت مصر تأييداً للتدخل العسكري الروسي في سوريا، حين قال شكري، بشكل صريح، إن الغارات الجوية التي تشنها روسيا في سوريا ستساهم في محاصرة الإرهاب والقضاء عليه.
ومنذ ذلك الحين، ترتكز المقاربة المصرية للأزمة السورية إلى مجموعة مواقف تلازم دوماً تصريحات المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين في كل حديث، وهو عدم التدخل في الشأن السوري، واحترام إرادة الشعب السوري، ومكافحة الإرهاب والعناصر المتطرفة، مع العمل على التوصل لحل سياسي للأزمة يحفظ وحدة وسلامة الأراضي السورية ويفسح المجال للبدء في جهود إعادة الإعمار.
ولعلّ الكلمة المفتاح في فهم الموقف المصري تتمثل في حرص القاهرة على تماسك الدولة السورية، باعتبار ذلك من ثوابت الأمن القومي المصري.
وللدلالة على أهمية هذا الاعتبار في السياسة المصرية، بدا واضحاً، خلال الفترة الماضية، أن القاهرة مستعدة للمخاطرة بعلاقاتها مع الرياض، برغم ما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات اقتصادية، على غرار قرار شركة "أرامكو" بوقف توريد المشتقات النفطية لمصر، بعد التوتر الواضح في العلاقات الثنائية، على خلفية الخيارات الديبلوماسية المصرية في مجلس الأمن الدولي إزاء الملف السوري، وحديث الرئيس عبد الفتاح السيسي عن دعم الجيوش المحلية، سواء في ليبيا أو سوريا، بما يمثله ذلك من انفتاح صريح على مبادئ تعارضها السعودية، المصرة على رحيل الرئيس بشار الأسد.
ومن غير المعروف بعد، ما إذا كان تراجع الشركة السعودية عن قرارها، تزامناً مع زيارة محمد بن سلمان إلى واشنطن، وقبل أيام على انعقاد القمة العربية، مؤشراً على ترتيبات جديدة تجرى في كواليس الديبلوماسية، برعاية أردنية، للتوصل إلى أرضية مشتركة بين الدول العربية، بشأن الحل في سوريا، لكن التحركات الديبلوماسية خلال الأيام القليلة الماضية تشي، برغم ذلك، بأن مصر بدأت تتجاوز "الأفق الأمني" في مقاربتها للملف السوري، باتجاه دور سياسي مباشر، في ظل محاولات إشراكها في محادثات أستانة، وربما جنيف، وما تردد في السابق عن خطة روسية، لما بعد حلب، تلحظ دوراً مصرياً فاعلاً في قوات حفظ السلام.