يذهب الكاتب مارتن أدامز في كتابه «الأرض، نموذج جديد لعالم مزدهر»land, a new paradigm for a thriving world (2015) في تحليله لفكرة الأرض واستعمالها، بعيداً عن كل النظريات الاقتصادية التي تتعامل معها كجزء من رأس المال، والتي تؤدي الى المضاربة العقارية. فقطعة الأرض لا تكتسب قيمتها إلا في محيطها، أي موقعها الجغرافي.
وهكذا، فإن الأرض سترتفع قيمتها بارتفاع النشاط الاقتصادي لمحيطها، حتى وإن لم تخضع لأي تحديث أو بناء. ولذلك فإن ارتفاع قيمة تلك الأرض يعود فضله الى المجتمع الذي يعيش ويعمل بجوارها، وليس الى مالكها بالتحديد. لذلك، فإن الأرباح الناتجة من زيادة سعر الأرض يجب ألا تذهب الى جيوب المالكين فقط، بل الى السكان مجتمعين. من هنا، يخرج بطرح الـ community land contribution (المشاركة المجتمعية)، أي أن تتحول الملكية الى المجتمع، الذي يستطيع تأجير الأراضي الواقعة ضمن محيطه للأفراد ويستثمر مداخيل تلك الأراضي لتطوير البنى التحتية والخدمات في المنطقة، ما يؤدي الى زيادة فعاليتها الاقتصادية. والأهم من ذلك، فإن هذا يفتح المجال أمام المستثمرين لإنشاء المشاريع لأنهم لن يضطروا بعد ذلك الى شراء الأراضي لإقامتها. وذلك يستتبع منطقياً انخفاض قيمة الأراضي في تلك المنطقة. وخلافاً لما يعتقده البعض، فإن غلاء أسعار الأراضي والعقارات في بلد ما، ليس دليل عافية اقتصادية على الإطلاق. فالعوامل التي تدخل في الإنتاج ثلاثة: الموارد الطبيعية، الموارد البشرية ورأس المال. والأرض، بما تمثله كمورد طبيعي (تماماً كالهواء والمعادن والماء) تشكل جزءاً مهماً من عملية الإنتاج، وبالتالي من تكلفتها، ولا تعتبر جزءاً من رأس المال (على خلاف السائد) لأنها غير قابلة للمراكمة (أي أنك لا تستطيع خلق أراض جديدة، لكنك تستطيع زيادة أعداد الآلات التي تشكل جزءاً من رأس المال). وبهذا المعنى، فإن كمية الأراضي محدودة، ما يجعلها تدخل ضمن فئة الـ entrymonopoly أي أنها مادة تخضع للاحتكار، الذي يسبب بإعاقة الإنتاج الرأسمالي.
فالمستثمر الذي يريد أن يبني مصنعاً، عليه أن يضع ميزانية لكل عوامل الإنتاج قبل البدء بمشروعه. وعندما يشكل سعر الأرض الجزء الأكبر من التكاليف، من الطبيعي جداً أن تنخفض حصة العاملين الآخرين (العمال والآلات)، ما يؤثر حكماً على تنافسية المنتج، لأن الكلفة الإضافية للأرض سوف تنعكس على سعره، أو على جودته، بسبب عدم استطاعة الميزانية المتبقية تحمل كلفة العمالة الماهرة، أو التكنولوجيات الحديثة.
هنا بالذات أصل مشكلة النظام الاقتصادي اللبناني، الذي قام منذ عهد الاستقلال حتى اليوم، وبطريقة أوضح منذ اتفاق الطائف، على مبدأ أن الاستثمار الآمن والمربح يكون في العقار. هذه النظرية القاتلة قزمت الأرباح المتأتية من الأعمال الصناعية والزراعية في لبنان، وأصبح جلّ همّ المغتربين وأصحاب الأموال شراء الأراضي والشقق، بل عدم القيام بأي تحسينات عليها، أملاً بارتفاع أسعارها لجني أرباح أكبر. هذا ما يسمى في علم الاقتصاد rent seeking أي الاستفادة من ثروات المجتمع من دون القيام بأي عمل في المقابل. زاد من حدة تلك الظاهرة تدفق أموال المغتربين الى الداخل، لكي «تستثمر» إما في البنوك (وبالتالي في تعظيم الدين العام، بما أن إقراض الدولة هو أهم نشاطات المصارف)، أو في العقارات التي تبقى من دون أي استثمار فعلي من قبل هؤلاء. أدى هذا الأمر الى نشوء حلقة مفرغة من ارتفاع الأسعار، التي أدت بدورها الى خنق الاقتصاد وجعل من تملك المسكن اللائق حلماً لكل لبناني مقيم.
وبما أن عدد الشقق الشاغرة في لبنان زاد عن 140 ألف شقة عام 2009 (حوالى 13% من كل الشقق، مع ملاحظة غياب الإحصاءات الرسمية بعد ذلك العام)، فإن بناء وحدات جديدة يعتبر بالمعنى الاقتصادي هدراً صافياً لأن ذلك يعارض أبسط قواعد نظرية الإنتاج. وعندما نعلم بأن القطاع العقاري يشكل 14% من الناتج المحلي، فإننا نستطيع اعتبار أن تلك النسبة هي ما يتم سحبه من جيوب اللبنانيين لتغذيته وإبقائه جذاباً، خلافاً لكل القوانين الاقتصادية. ولو تمت الاستفادة من الشقق الشاغرة، لخلقت سوقاً تأجيرية كبيرة، تدفع بالإيجارات حكماً الى الهبوط، وتمكن الشباب اللبناني من البقاء في وطنهم.
إن تطبيق طرح مارتن أدامز أمامه عقبات كثيرة في بلادنا، أهمها سياسي ــ اقتصادي (لا تستطيع أن تنقل الملكية من الأفراد الى المجتمع لأنك ستواجه رفضاً شعبياً بالدرجة الأولى). لكن، عندما نعلم بأن الشقق والأراضي غير المستثمرة (أو غير المستعملة) تستنزف ميزانيات الوطن والبلديات على السواء، من دون أن يشارك مالكوها بأي عبء ضريبي، علينا أن نراجع مقاربتنا للموضوع على هذا الأساس. فالبلديات مثلاً مضطرة إلى تقديم الخدمات في شوارع المدن (كتزفيت الطرقات، والإنارة، وجمع النفايات)، بغض النظر عن نسبة إشغال المساكن في تلك الشوارع. لكنها لا تجمع الضرائب إلا من السكان المقيمين في هذه المناطق، علماً بأن المنطق الاقتصادي يقول إن المصاريف لتقديم تلك الخدمات تنقسم الى مصاريف ثابتة (fixed costs)، أي التي تتكبدها الدولة أو البلديات، بغض النظر عن عدد المشتركين فيها، ومصاريف متغيرة variable costs وتلك ترتفع بارتفاع عددهم.
وبما أن الضرائب بنوعيها، البلدي والوطني، لا تفرض في لبنان على المالكين للأراضي والشقق الشاغرة، فإن ذلك يعني أن المكلفين يدفعون تكاليف المصاريف الثابتة عن أنفسهم وعن غير المقيمين، الذين يستفيدون من ارتفاع أسعار العقارات عندما تزدهر الخدمات المقدمة في منطقتهم (منطقة الضم والفرز في طرابلس مثال حي على ذلك، فهي تتمتع بأعلى درجات الخدمات مقارنة بباقي الأحياء في المدينة، لكن نسبة إشغالها منخفضة جداً).
المقاربة نفسها تنطبق على الأراضي التي تقوم الدولة بشق طرقات بجانبها أو تقوم بإنشاء البنى التحتية في محيطها. فالمكلف اللبناني يدفع تكاليف تلك البنى، بينما يستفيد صاحب الأرض من الأرباح الناتجة من ارتفاع قيمة الأرض بسبب تقدم المستوى الخدماتي في المنطقة. كل تلك الثغَر في نظامنا الضريبي أدت فعلياً الى تحول العقار الى مصدر للربح المباشر، وتحويل الثروة من المجتمع الى ملاك العقارات.
الحل يكون بفرض ضريبة على الشقق والأراضي غير المستثمرة؛ بنسبة تماثل نسبة المصاريف الثابتة الى المصاريف الكلية (فلنفترض 70%). وهذا يعني مثلاً أن تكون الضريبة عليها تقارب 70% من الضريبة المفروضة على الشقق المسكونة. أما بالنسبة إلى الأراضي، فإن قانوناً يحدد الضريبة السنوية على مختلف التصنيفات (معدة للبناء، زراعية، صناعية، الخ) سيؤدي حكماً الى انخفاض أسعار الأراضي، أو على الأقل تحويلها الى أدوات إنتاجية وليس إلى أدوات للمضاربة، لأن تكلفة الحفاظ عليها ستشكل عائقاً أمام المضاربين الذين سيجدون أنفسهم أمام حلين: إما استثمارها فعلياً (وبالتالي خفض الكلفة أمام المشاريع الاستثمارية المنتجة)، وإما دفع الضرائب. بالإضافة الى ذلك، ستؤمن تلك الضرائب مداخيل جديدة للدولة والبلديات، مع إعطاء الحصة الأكبر الى البلديات التي يستطيع الناس محاسبتها مباشرة على كيفية صرفها لتلك الأموال، وتقديم خدمات أفضل لهم.