يتضمن «المقدّس وتوظيفه» (إشراف وتقديم رجاء بن سلامة ــ سلسلة ندوات المنشورات الجامعيّة بمنوبة، الطبعة الأولى، 2015) دراسات مهمة هي في الأساس أعمال ندوة نظمتها «جمعية الأوان» في نيسان 2013 في تونس. يمكن اعتبار العمل من أكثر الكتب رصانة في مقارعة توظيف المقدّس في التاريخ العربي الإسلامي، شاركت فيه مجموعة باحثين هم: فتحي المسكيني، محمد الشريف الفرجاني، محمد الصغير جنجار، مبروك المنّاعي، أم الزين بنشيخة المسكيني، ناجية الوريمي بوعجيلة، ستيفن أولف، كمال عبداللطيف، سهام الدبابي الميساوي.
تعددت اهتمامات المحاور المدرجة في الكتاب. درست آليات توظيف المقدّس وتشابكه المحموم مع الفلسفة والفن والشعر والسياسة والتاريخ، في عالم عربي يخشى نقد المقدسات الدينية وأصولها ومنابعها واستنزافها في لعبة الصراع على الإسلام. لعل الاستعارة التي استعانت بها الباحثة رجاء بن سلامة حين اعتبرت أن معركة في الأمس واليوم هي بين «أهل التكبير» و»أهل التعبير» تفيدنا إلى حد ما في ايجاز المشهد العربي الراهن الذي يميل بقوة إلى التأثيم والعنف الديني والتدين الأعمى.
في ورقته «الفلسفة وآداب المقدس»، يتناول فتحي المسكيني معنى المقدّس وموقعه من الاهتمام الفلسفي. يقدم من زاوية فلسفية المقدّس بوصفه «موقفاً حدودياً في عالم لا يسكنه أحد. ولذلك فهو نوع من التأجيل السامي لمعنى الموت، بتحويله إلى مقام للنجاة من القلق الوثني بواسطة الخشبة الإيمانية. وهو اختراع توحيدي فذّ». وإذ يرى أن الشخصية الإنسانية وحدها مقدّسة يستحضر خلاصات كانط الذي نظر إلى التوجس من المقدّس بوصفه معطى يتعارض مع الكائنات العاقلة؛ فلا «يليق بالإنسانية، إذن، أن تبني رجاءها على الخوف أو على الخضوع لسلطة خارجة عن طبيعتها».
يرصد محمد الشريف الفرجاني التسلسل التاريخي لمختلف التوظيفات السياسية للقرآن، انطلاقاً من تحليل البعد السياسي – أو القابل للتسييس – للخطاب القرآني. يؤسس مقاربته الأولية على مفصل رئيس: جدلية اليوتوبيا/ الواقعية السياسية والسلام/ العنف في القرآن. يميز بين الفترة المكية والفترة المدنية، مستشهداً بالمفكر السوداني محمود محمد طه الذي اعتبر أنّ الرسالة الحقيقية للإسلام، المتضمنة للأصول والمبادئ الكونية، يجب البحث عنها في رسالة الفترة المكية، حين لم يكن على الإسلام أن يأخذ في الاعتبار المقتضيات الخاصة بالمجتمع الذي توجهت له دعوته. انبثقت التوظيف السياسي للقرآن من محطات تاريخية مختلفة بدءاً من محاولة الخلفاء كتابة القرآن وفق صياغة واحدة لفرضها كمصحف وحيد يجب على جميع المسلمين اعتماده، مروراً بالفتنة الكبرى ومعركة صفين، وصولاً إلى التوظيف السياسي في خطاب الإصلاحيين ودعاة الإسلام السياسي.
يعرض الأكاديمي المغربي محمد الصغير جنجار المقدّس وتوظيفه في الحالة المغربية، منذ المهدوية إلى الإسلام السياسي المعاصر. اختار نماذج عدة محللاً أطرها وأبعادها. تركزت ورقة مبروك المنّاعي على شعر أبو نواس الذي يُعد من أكثر الشعراء هتكاً للمقدّس وتوظيفاً له. تجلى هذا العبث بالمقدّس في الاستهانة بالفرائض كالصلاة والصوم والحج وامتداح الحرام، إلى جانب أن ديوان أبي نواس احتوى على أكبر عدد من النصوص الشعرية التي قيلت في «إبليس». أحصى له الكاتب ما لا يقل عن 10 قصائد يذكر فيها «إبليس»، بل يحتل منها «إبليس» أحياناً الموضوع الرئيس الذي تدور عليه القصيدة.
تعتبر العلاقة بين الفن والمقدّس من أكثر العلاقات تعقيداً. وإذا كان المقدّس وُلد في أحضان الفن وصار الفن تعبيراً قصياً عن المقدس كما تلاحظ أم الزين بنشيخة المسكيني، فإنه في المجتمعات العربية محكوم بلغة التحريم الديني التي ترى فيه تواطؤاً على المتعالي. تحيلنا الكاتبة على ثلاثة نماذج للعلاقة بين الفن والمقدس: النموذج الوثني، النموذج التوحيدي، النموذج الحديث. لا يسجل على النموذج الوثني أي توتر بين الفن والمقدّس، وذروة هذا التناغم تمثل في المعلقات التي تجسد علامة كبرى على الربط الرسمي بين الفن والمقدس في المجتمع الوثني العربي (...) ما يدل على أن أقصى ما يبلغه الفن في أيام ما قبل الإسلام هو أن يُعلق في المعبد.
تقدم ناجية الوريمي بوعجيلة قراءة نقدية لمركزية المحدثين الذين تمتعوا بقداسة فائضة: «فهم الطائفة الناجية القائمة على الحق». أُعطيت الأفضلية في التقديس لابن حنبل. أضفت المحنة عليه طابعاً قدسياً أسس له خطاب المحدثين. فابن حنبل من سلالة إبراهيم الخليل، وله تواصل مادي ورمزي مع الرسول من خلال احتفاظه بشعرة منه. نسبت إليه المعجزات منها مخاطبة الحيوان وامتثاله لأوامره. تنتقد الكاتبة آلية خطاب أصحاب الحديث الذين نزعوا الطابع التاريخي عن المحنة التي عاشها ابن حنبل. تذكر أن الخطابات الحنبلية سكتت تماماً عن الأسباب السياسية المباشرة لما سمّي المحنة، منها ما هو متصل بحملة التكفير التي قادها أصحاب الحديث ضد المأمون لأنه سمح لجميع المذاهب بحرية التعبير عن آرائها، ولأنه بادر إلى إنشاء بيت الحكمة وترجمة كتب الفلسفة، كتب «الكفر» عندهم.
يجري الأكاديمي البريطاني ستيفن أولف مقاربة مقارنيّة بين الإيديولوجيات الفاشية الشمولية والأصوليات الإسلامية. يرى أن التماثلات بين الإسلاموية والماركسية الثورية شديدة في الحقل السياسي والثقافي، ومن أكثرها بروزاً، الالتقاء على وجوب تغيير الطبيعة البشرية تمهيداً لجنة أرضية مجيدة. يحدد خمسة عناصر تتشابك فيها لُغتا الإيمان والسياسات: الدعوة إلى الأصالة والموروث؛ الثورة الإناسية في ولادة الإنسان الجديد، البطل وديمومة الصراع، تقديس الجماعة، والفصام النكِد: طمس الفصل بين الحقوق الجماعية والفردية. يستعير الكاتب مصطلح «الفاشية الإكليركية» من المؤرخ الأميركي والتر لاكور للدلالة على الحركات الدينية الفاشية التي عارضت بشدة العلمانية وقيم الديمقراطية والتعددية وهي تماثل الأصولية الإسلامية التي ترفض بشدة هذه المبادئ.
يدعو المفكر المغربي كمال عبد اللطيف إلى تحرير الدين من سطوة التوظيف السياسي. يبرز تحديات توظيف المقدس في الراهن العربي، معتبراً أن الإسلام يتعرض لأكبر عملية توظيف في تاريخه، ما يستدعي عملية إصلاح ديني من شأنها الحد من وطأة هذا التوظيف والفصل بين المجالين الديني والسياسي.
عالجت الباحثة التونسية سهام الدبابي الميساوي مظاهر المقدس في الغرب الإسلامي من خلال دراسة بعض مقدسات المغاربة عبر نماذج من نصوص تصف حياة الناس وتخبر عن أساطيرهم ومعتقداتهم. اختلطت مقدسات إسلامية عدة مع ماضٍ ضارب في القدم كشفت عن نفسها من خلال طقوس مختلفة بينها التبرك والاحتفالات التي ترافق المواسم والأعياد الدينية.
يسائل «المقدّس وتوظيفه» تجليات وتمثلات المقدّس في الديانات والسياسات. يضع على مشرحه النقد العلمي استخدام الدين للسياسة والعكس. يشكل العمل إضافة نوعية للمكتبة العربية ضمن بيئة تحظر المسّ بالمقدسات ورموزها بفعل التدين المفرط وسيطرة الذهنية السحرية على الجمهور.