بورتريه شخصي-1 الكتمانُ من نسيج الرداء
كنّا نحوك النجوم والأحلامَ ليلاً
ونُظهرُ في النهار منزلةَ الأنبياء
تحدثتُ بهذا القدْرِ إلى نفسي
إلى نبتةٍ عالقةٍ بين الصخور
كانت براءةُ الأطفال
تحجبُ هذا القابعَ في منتجع العقل
طالما كان يَبلَعُ أفكارَهُ مَخافةَ الهتك:
الآتي (-) الماضي

مصعدُ السماء يعمل في الليل والنهار
ليس بعيداً عن مامبا* القدر السوداء
مددتُ يدي في فم الهاوية
ولستُ أدري كيف تمّ إرجاءُ المشهد الأخير.
تحدثتُ بلغات أجهلها،
مررتُ بمحطاتٍ ندمانها الثلجُ والعواصفُ
شربتُ وسابقتُ الغيومَ في مسيرها
رأيتُ نفسي دلفيناً يقطع البحارَ وحيداً
تَجَاهَلَنِي الأقربونَ وأكرَمَني الغرباءُ
خُدِعتُ مراراً – لم أكنْ أعرفُ أنّ الضحيةَ جلادٌ،
جعْتُ، لكنني احتفيتُ بأحذيتي المُتهرّئة
كنتُ أرى من بين ثقوبها
أعدائي.
عشقتُ النساء جميعَهُنّ والأزهارَ كلّها
أحببتُ الأصدقاءَ جميعَهُمْ،
والسماواتِ كلّها، بلا غرضٍ،
كان كلبي أكثرَهُمْ وفاءً.
ليس لي إلهٌ واحدٌ
فكنتُ أرى في كلّ إلهٍ إلهي.
أنّى اتجهتُ كانَ ثمة نسرٌ يحومُ
وديانٌ سحيقة، أفقٌ يَمْتدُّ دونَ رحمةٍ،
خلل البراري... كنتُ أصيحُ، يا براري
يَجِيئُنِي الصوتُ: بَرَا ريي ييْ ييْ...
في حفلةِ العميانِ والأهواء،
ألفيتُ ما يُشبهني متناثراً بين طبلٍ وقيثار
جمعتُ ما أمكنني من الأصواتِ والأوتارِ
عدتُ لأهلي من العالم الآخرِ
حينَ رأوني فَرِحُوا ثمّ قالوا:
تَغَيّرْنا يا (أبا آدم) كثيراً
لم يَعُدْ هذا الزمانُ للعيشِ الكريمِ يَصْلحُ
مَاتَ مَنْ حالَفَهُ الحظُّ، وعاشَ مَنْ عاشَ
هكذا لا على التعيين...
وأنتَ يا أبا آدم؟
أوْمَأتُ لشِقٍّ في الجدار
كنتُ أقول: البيتُ روحي
لمنارةٍ مَحنيةِ الرأس،
كنتُ أراها وترَ الضوءِ،
لشَعْرِ أختي العانسِ،
لأبي الذي لم يَعُدْ يعرفني
يتفقّدُ أياّمَهُ بين أسراب السحاب
أومأتُ للتغضّنِ فوق الجبين
وضعتُ يدي فوق الفؤادِ،
يَدقُّ يَدقُّ ثمّةَ أسرعَ مثل قطارٍ
يُغادرُ المحطة.
لم أرَ في حياتي حواراً
أبلغَ ممّا رأيتُ.
* المامبا السوداء: أفعى أفريقية تُعَدّ
من بين أسرع الأفاعي وأكثرها فتكاً في العالم.

بورتريه شخصي-2
نَوْمِي يَتَقَطّعُ حتى أنّي لمْ أبْرَحْ ما أعْطَتْ لي اليقظةْ
مِنْ سَمْعٍ يَخْدِشُنِي، نَظَرٍ يَحْبِسُنِي داخلَ مَنْظورٍ واحدْ،
طرقاتٍ هوجاءَ وضوءٍ يَخْدعُني، عُشّاق صَرْعى باسْمِ الحبّ
وأخبارٍ عنْ قتلى بالْمَجّانِ وآثامٍ تزدادُ وأحياءٍ
يَصْطَفّون طوابيرَ على أبوابٍ مُوْصَدةٍ
بحثاً عَمّنْ يفتحها، ثمةَ مَنْ يتراجعُ مُنْسَحِبَاً: لا أدري أين؟
إشاراتٌ ترصدنا، شُهُبٌ تَتَصَارعُ أمْ أطيافٌ لا نعرفها؟
مَنْ هذا الظلُّ الماثلُ بين الأشجار صَرَخْتُ: أهذا الجارُ؟
ظننتُ فراشي في برمنْغهامَ أطالَ الليلَ ولكنّ الأيامَ
بوارسو تَقْصُرُ أيضاً والشمسُ وإنْ ضَحِكتْ كانتْ
تَجري نَحْوَ الغربِ... وفي الطرفِ الأبْعدِ
يَجْلسُ فوق الكرسيّ عَجُوزٌ مخمورٌ يتوسّلُ بالشمس...
(زيرو ناقصْ زيرو) هذا الأبيضُ والأسودْ
حُوذيٌّ يَلكزني باسْمِ العدمِ-
صفحاتٌ مُشْرَعَةٌ لم تُقْرأْ منذ سنين.
نومي يتقطعُ لكنّي قرّرْتُ بأنْ أسْري ليلاً
خارجَ ظلّي، أنْ أمْضِي القيلولةَ في سُرُرِ العشق
حتى القُبْلة أضْحَتْ تَنْسِجُني في أوقاتٍ لا أعْرفها
أسْدلتُ ستائرَ شَرْقِ الشمسِ ومَغْربها
كانتْ صُوَرٌ تَمْلَؤُهَا أزهارٌ وفراشاتٌ
تَعْبُرُ نَهْرا مكشوفَ الصدرِ ومَرفوعَ الكتفينِ
ثمة غيمٌ مُنْحَسِرَاً خلْفَ تلالٍ لولا الحسناواتُ أمامَ الماءِ
وبعضُ الغزلان لكانَ المشهدُ يبدو عن بُعْدٍ مَمْلكةً عزلاء.
أسْبَلْتُ العينينِ على مَرْجٍ مُترَامي الأطرافْ
حتى أنّي لم أسْمَعْ في اليوم التالي أكثرَ من نقرٍ
فوق زجاج البيتِ لمنقارينِ وزقزقةٍ
عُمْرٌ
قد يُولَدُ فوقَ الغصنِ وعندَ الشبّاكِ
وأحياناً في ظلّ الوردِ وليسَ بعيداً
عن زفرات القرَشِ المفتوح الشّدْقينِ
الوردُ يُظللني داخل بيتي.

بورتريه شخصي-3
وُلدتُ في الريف لكنّي نشأتُ على وقع المواكب والطبول بين التشبّثِ بالغيب والتعللِ بالجنونِ
كان النهرُ يَغسلُ أدراننَا، يوقظ الذعرَ أحياناً،
ويُبقي على مَجْراهُ فَرْداً كمحراثٍ يغور عُمْقاً ليرتدّ إلى ذاته.
وَجهٌ يكتفي بنفسِه لكنه سرعانَ ما يُصبح مِلْكَ سواه
أضدادٌ عندَ حَوافي الصحارى تأتلفُ، مددتُ يدي ولَمْلَمْتُ من روحها أشلائي
(عينايَ ظلتا مشدودتين بخارطة السماء...) لم أكنْ أعرفُ أكثرَ من حدود ما يَطلبه الماءُ والزرعُ
والحيوانُ والنجمُ وثديُ الغيمِ والفضاءُ، ولم يكنْ هناك
من جامعٍ أو كنيسةٍ كي يُؤَوّلَ الليلُ ما قالهُ الفجرُ
أو يَهتكَ النورُ أسرارَ الظلالِ،
لا صوتَ سوى الأصداء،
يُمْكِنُ إدراكها في اهْتزازِ المُوَيْجات، في ارتطام الثمار بالأرض، في لغةِ الطيور، وَوَطْأةِ السكون فصولُ الحياة شائكةٌ مثلُ وضوح الإله في غيبته
وما لم يكنْ واضحاً بعدُ، ذلك الوجهُ الذي ركلته
صيحاتُ النساءِ مبكراً وقهقهةُ الموتِ عبرَ الحقول.
أيها الأمسُ، أناديك هَمْسَاً:
ملأتَ فَمِي بالرّملِ والوردِ - بالشكّ واليقينِ
يا له مِنْ وعاءِ = + - × ÷ 0 = كائنا منسفحَ الخيالِ والجذور
مُنْغَلِقَ الشفتين.
وكلاءُ العُلا في كل مكانٍ مررتُ به:
في الأزقة والزوايا، في المدارس والبيوت وفي التكايا،
حتى في دورة المياه، غيرَ أني لم أجدْ أحداً في القلوب.
سألتُ الإمامَ مراراً عن دورة الأفلاكِ والحظّ فلم يُجبْ،
وضعتُ كفّي على شبّاكه بكيتُ لطمْتُ رأسي
فوق فضّته ذاتَ يومٍ ثم جثوتُ...،
سمعتُ نشيجاً خفيّاً تَدفعهُ الأعماقُ باتجاهي:
الفقرُ في هذي البلاد غُرْبَةٌ والغِنَى عند الغريب هو البديل.
سمعتُ منْ يُرَدّدُ حَوْلِي:
زور سوباس أجوشي،
با تشكر از شما دوستان عزيز
Thank You so much my Dearest Friend
حين أفقتُ ألفيتُ نفسي خارجَ نفسي
سُئلتُ ومازلتُ أُسْألُ:
من أين أنت (skąd pan jest?)
وكنتُ وما زلتُ أجيبُ: من اللامكان
أيُولدُ المرءُ من اللامكانِ؟
محراثي بيدي، حفنةُ رملٍ، باقةُ زهرٍ، قبعةٌ مُسْتعارةٌ،
وقصيدةٌ لا تريدُ أن تنتهي
طالما تبحث عن ذاتها.
* شاعر ومترجم عراقي مقيم
في بولندا