في عكار، انتهى «العصر الذهبي» للنازحين السوريين: اختفت الشعارات وغابت التحركات الداعمة، وأُغلقت هواتف السياسيين في وجه «الثوار» والنازحين على حد سواء، وتحوّلت نعمة الإقامة الى نقمة لكثيرين.
في البداية، لعبت السياسة دوراً رئيسياً في احتضان النازحين، وتم التعامل معهم كمصدر قوة ودعم لـ»البيئة الحاضنة». استقطب شمال لبنان (بحسب أرقام مفوضية اللاجئين عن التوزع الجغرافي للنازحين عام 2012) ثلث العائلات النازحة المسجلة (نحو 400 ألف نازح). حظي هؤلاء باهتمام سياسي، محلي ودولي، وشهدت المنطقة نشاطاً كثيفاً لمختلف المؤسسات الأهلية والدولية، وزيارات تفقدية لوفود دبلوماسية عربية (خليجية خصوصاً) وأجنبية. إغداق المساعدات وتهافت الجمعيات الخليجية على تقديم الإعانات سمحا ببناء قاعدة قوية دفاعاً عن استقبال المزيد منهم، وساهما في ازدهار تجارة السلاح والأدوية والمواد الطبية، وحوّلا قضية النزوح إلى «دجاجة تبيض ذهباً» لسماسرة كثر تاجروا بالنازحين.
مع دخول الأزمة السورية عامها السابع، شحّت المساعدات العربية، وانقطعت إعانات الجمعيات الخليجية، وتراجعت تقديمات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي شطبت، في الأعوام الثلاثة الأخيرة، مئات الأسر من القوائم الغذائية. خفتت الأصوات الداعمة، وخفّت إلى حد الانقطاع زيارات المانحين، ليُترك الفقراء في مواجهة الفقراء.

شحّت المساعدات العربية والخليجية وتراجعت التقديمات الأممية


تعمل النازحة السورية مسيرة المحمد مع بناتها الخمس، أكبرهن في الثانية عشرة، في ورش قطاف الخضر بالقرب من خيمة تقطنها في سهل عكار. تقول لـ»الأخبار» إن أجرة كل منهن «خمسة آلاف ليرة يومياً، ولا خيار آخر أمامنا لأن زوجي عاطل من العمل بعدما خفضت المفوضية مساعداتها وشطبت كل عائلة لديها رب أسرة من القوائم الغذائية». تنتظر مسيرة وبناتها بفارغ الصبر موعد جني موسم البطاطا في سهل عكار، «فالطلب على العمال يرتفع في هذه الفترة، وبالتالي يمكننا تحسين مدخولنا وتأمين المتطلبات الغذائية الضرورية».
ولأن «القلّة تولّد النقار»، خرجت الأزمة بين الضيوف والمجتمع المضيف الى العلن. الأزمة المستجدة بين بعض بلديات عكار والنازحين تخفي أكثر مما هو مطروح في العلن عن سعي لإغلاق مخيمات. فقد تضمنت قرارات بعض البلديات تصريحاً واضحاً بعدم قدرتها على ممارسة سلطة الرقابة لمعرفة ما يجري «أمنياً وأخلاقياً» في تجمعات النازحين.
رئيس بلدية خربة داود سعد الدين سعد الدين تحدث عن إقدام جمعية «التنمية والبر الخيرية» على «اعتراض المنظمات الدولية وعدم السماح لهم بدخول المخيمات وإعاقة عمل البلدية لناحية مراقبة عمل الجمعيات والمراقبة الأمنية»، متسائلاً: «كيف للسلطة المحلية أن تتحمل مسؤوليتها وهي لا تعلم ماذا يجري في مخيمات النازحين الستة في البلدة؟». فيما يتحدث رئيس بلدية البيرة محمد وهبي عن «خطر اجتماعي يهدد البيئة الحاضنة المضيفة».
في وادي خالد، يلامس عدد النازحين نصف عدد السكان، فيما فاقت أعدادهم اللبنانيين في الكثير من البلدات كالهيشة ورجم خلف وحنيدر والكنيسة. يلفت رئيس اتحاد بلديات المنطقة الدكتور فادي الأسعد إلى أن قرى الوادي وبلداته «فتحت بيوتها للضيوف المثقلين بآلامهم... لكن أبناء الوادي أنفسهم ساءت أوضاعهم أكثر من ضيوفهم الذين يجدون في كثير من الأحيان بعض العون وإن كان غير كاف». فقلة العمل أدت الى تقلص مداخيل بعض العائلات، وانعدامها عند البعض الآخر. ويقدر الأسعد نسبة البطالة في الوادي «بـ 95 في المئة، ما يفرض على الدولة إعلانها منطقة منكوبة».
المنطقة التي عرفت لسنوات خلت بـ»وادي الذهب» أقفرت «مناجمها» مع إقفال الحدود وتوقف التجارة مع الداخل السوري، والتي كانت تشكل المصدر الوحيد للدخل هنا.
اليوم، الوظائف نادرة والزراعة محدودة، واللقمة التي يلهث وراءها نحو 36 ألف نسمة، هم سكان الوادي، صارت عصية في ظل منافسة اليد العاملة السورية. وزاد الطين بلة الضغط على البنى التحتية، وقيام وزارة الطاقة والمياه بمشاريع صرف صحي سيئة أدت الى تلوث النهر وتوقف العمل في الزراعة. في المقابل، تستعر نار الإيجارات، وترتفع الصرخة كلما اقترب النزوح نحو المنطقة الساحلية، وعلى مدى السهل العكاري حيث تنتشر تجمعات الخيم أفقياً.


في عكار اليوم يقال، علناً، كلام لم يكن أحد يتصور أن يقال يوماً عن «طرد النازحين». رئيس بلدية عيات محمد رأفت نجيب، الذي يتجه لإقامة مؤتمر صحافي يعلن فيه طرد النازحين من البلدة، يؤكد أن «الفوضى باتت عارمة، والمواطنين غير راضين عن تقاسم المياه والكهرباء والصرف الصحي مع النازحين السوريين الذين استولوا على كل شيء، في حين يئن فيه المواطن اللبناني من دفع الضرائب».
في محافظة عكار الفقيرة، بناسها ونازحيها، يهدد كل هذا الضغط بانفجار قد لا يكون بعيداً، فيما تغيب الدولة كطرف معني بالأزمة المفتوحة على المجهول.




المرعبي: التحديات كيانية والمطلوب سياسة خاصة

يكرر وزير الدولة لشؤون النازحين معين المرعبي، منذ تسلمه الوزارة، «أن لبنان تحول بأسره الى مخيم للاجئين. الوضع مأسوي للغاية، والمجتمع المضيف أنهك بعد استنزاف مقومات العيش»، مؤكداً «أن كل ذلك يدفعنا إلى إيلاء اللبنانيين اهتماماً استثنائياً على كل المستويات الاجتماعية الاقتصادية والتربوية والصحية، وعلى تأمين البنى التحتية غير الموجودة في الأساس، كما يفرض علينا وضع سياسة خاصة للتصدي للأزمة بما يمكننا من مواجهة التحديات الكيانية التي فرضتها علينا أزمة النزوح السوري».
ويشدّد المرعبي على «أن لبنان تحمّل كلفة باهظة منذ بداية الأزمة السورية بلغت 15 مليار دولار في اقتصاده وبناه التحتية، والمساعدات التي تلقاها لا تقارن بهذه الكلفة، علماً بأن إجمالي الدين العام للبنان يبلغ 75 مليار دولار»، متسائلاً: «كيف يلقي المجتمع الدولي على لبنان أعباء تحمل كل هذا الوضع؟ ولماذا لا تبادر البلدان الكبرى والغنية ذات الإمكانات الاقتصادية الهائلة ومساحات الأراضي الشاسعة إلى المساعدة بالإيواء على أراضيها؟ أو فرض الحل السياسي وإنهاء الحرب في سوريا لتمكين النازحين من العودة إلى بلادهم؟».





200 مؤسسة سورية

يؤكد رئيس «جمعية تجار محافظة عكار» إبراهيم الضهر أن «الواقع الحالي أسوأ بكثير مما كان عليه في 2015 ــــ 2016». ووفقاً لدراسة مفصلة أعدتها الجمعية عن الأوضاع الاقتصادية في عكار في تلك الفترة تبيّن أن نسبة البطالة ناهزت الـ 75 في المئة، فيما وصلت نسبة المؤسسات التجارية المتعثرة جراء الوضع الاقتصادي المتردي الى 80 في المئة.
وساهم في تردي الأوضاع افتتاح عشرات المؤسسات التجارية غير المرخصة التي تعود لنازحين نقلوا أشغالهم الى المنطقة عقب اندلاع الأزمة السورية.
وأحصت القوى الأمنية افتتاح نحو 200 مؤسسة تعمل في مختلف المهن (الألبسة، الخياطة، الملاحم، صالونات الحلاقة، الميكانيك، المحامص، محال الحلويات، الحبوب، البهارات...). كما زادت مزاحمة العمال السوريين لأقرانهم اللبنانيين في سوق العمل أوضاع العائلات العكارية فقراً.
ولفت الضهر الى «أن الاجراءات التي تقوم بها الوزارات المعنية شكلية، والتجار يسعون باستمرار لحث هذه الوزارات على الإصغاء لمطالبهم المحقة، متسلحين بقرارات وزارة العمل التي تمنع الأجنبي من العمل. إذ من غير المنطقي أن يدفع التاجر اللبناني كل المستحقات المترتبة عليه للدولة اللبنانية من ضرائب وغيرها، في حين تفرّخ عشرات المؤسسات السورية يومياً من دون أي رقابة»، مشيراً الى «عشرات الشكاوى التي وصلت الى وزارة الاقتصاد من دون أن تلقى أي رد أو اهتمام».