ما عاد الحديث عن الحرب الأهلية اللبنانية يُحدث نفس الوقع. ربما لأنها لم تنته. ربما لأنها انتهت ولم ينتبه أحد أنها انتهت. وربما لأن أحداً لم يرد التصديق. وربما أيضاً، لأن الحروب في المنطقة المحيطة، الأهلية وغيرها، مسحت حرب اللبنانيين من المشهد العام وأخذت مكانه، من دون أن يكون هناك مُعتبِرون، أو أشخاص استطاعوا أن يتذكروا أهوالها، فينسون تكرارها.
خطابات اليوم تشبه خطابات المحتربين اللبنانيين، الذين ما كانوا يعرفون أنهم في حرب أهلية، وخطابات القِتال الأهلي تتشابه تقريباً في كل مكان. وكانوا يرفضون المصطلح، ويتسلحون بادعاء الحق. ولكن من ينزع الصور من ذاكرة ضحاياها. ومن يقنع المحتربين اليوم أن صور حروبهم ستبقى وقتاً أطول مما يعتقدون بكثير. هنا عينة من أشخاص شاهدوا الحرب وشاهدتهم. هربوا منها ولاحقتهم. يجيبون على سؤال بديهي، كان في 13 نيسان بديهياً، لكن الجميع نسي أن يجيب. أين كنت في 13 نيسان 1975؟

رهيف فياض
(معمار)
قبل الحادثة بيومٍ واحد كنت ببيروت، أعمل في مكتبي حتى وقتٍ متأخر. لكن في اليوم التالي، 13 نيسان 1975، كنت في بيت مري مع عائلتي. كنّا، أنا وزوجتي وطفلين. سمعنا بالحادثة هناك، حادثة عين الرمانة. نزلنا فوراً إلى بيروت، وأذكر قصة طريفة هنا. في اليوم التالي، أي الاثنين، بما أن جريمة وقعت الأحد، كنت مسافراً إلى «اليمن الديموقراطي». هكذا كان اسمه آنذاك. وكانت رحلة ضرورية، وكنت خائفاً من إمكان إلغائها، أو إغلاق الطريق إلى المطار. وضبت أغراضي على عجل، ونجوت بالرحلة في اليوم التالي. وعندما عدت من السفر، وجدت أن الحرب اشتعلت فعلاً.

رمزي حيدر
(مصوّر)
في الواقع أنا من سكان عين الرمانة. نعم، هذا يعود إلى ما قبل الحرب. كنت أقيم في شارع غنوم، قرب معلم كاسرجيان الشهير. والذي يعرف الحرب، يعرف أنه تحول إلى ثكنة عسكرية. لم أكن في المنزل خلال حادثة البوسطة. وبعد «الجولة الثالثة» صارت العودة إلى المنزل مستحيلة. تهجّرت. والذي يعرف الحرب، يعرف أن «الجولة الثالثة» كانت مصطلحاً يعني الأيام القليلة التي تلت حادثة البوسطة نفسها. خلال الحرب، عملت مصوراً في معظم المناطق اللبنانية وخلف خطوط التماس، لكني لم أعد لمعاينة المنزل في كاسرجيان إلا في أوائل التسعينيات، أي بعد 15 عاماً.

أسامة بعلبكي
(فنان تشكيلي)
كنت صغيراً لكن أثر الحرب يظهر لاحقاً. ظهرت بأثرٍ ضبابي. أعتقد أنها ظهرت في أعمالي، عندما رسمت بوسطة عين الرمانة بوصفها وحشاً معدنياً، وعندما رسمت بقايا سيارات المرسيدس العالقة في ذاكرتي. هناك تدرجات مونوكرومية للحرب، إنها متروكة في مساحة عريضة من ذاكرة على قماش لونه أبيض وأسود وقليل من البني، هذه الحال الحزينة. يمكنني القول إن الحرب تستعاد باللوحة أيضاً، في الأشكال والألوان. ولكي أحسم هذا الجدل، هذا اللون انتزعته من ذاكرتي، أقصد لون الحرب المتأكسد، في طريقنا من بيروت إلى الجنوب في 1982. كانت مسيرة طويلة، أتذكر منها متاريس الرمل العالية وألوان الغبار. ثم صادفت الطريق نفسها نزولاً من الجنوب في 1987. الحرب تحجز مكاناً في الذاكرة ذهاباً وإياباً.

حنّا غريب
(نقابي)
في ذاك النهار، تركت صفي في كلية التربية في الجامعة اللبنانية للمشاركة في احتفال فني كان ينظمه اتحاد الشباب الديموقراطي اللبناني في منطقة النبعة. حضرت إلى هناك برفقة الأمين العام للاتحاد آنذاك، سعد الله مزرعاني، وكنا الاثنين طالبين في الجامعة. وعلى وشك انتهاء الاحتفال، أخبرونا بما حصل، فتلبدت أجواؤنا وخرجنا إلى الشارع لنشهد على قطع الطرقات والاستنفار العسكري والأمني. مشهد الناس الهاربين من الموت لا يزال مطبوعاً في ذاكرتي حتى اليوم.

وداد حلواني
(رئيسة «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان»)
أذكر أنه في ذلك اليوم، كانت الرحلة اليتيمة التي نظمتها «لجان العمل الطلابي» (التنظيم الطلابي المقرّب من منظمة العمل الشيوعي) في الجامعة اللبنانية. يومذاك، كنت مع عدنان، زوجي، من المشاركين في الرحلة إلى قناة باكيش. وأعتقد أنه كان معنا أيضاً، في الرحلة ذاتها، جوزيف سماحة ونصير الأسعد وجورج ناصيف. كان نهاراً ربيعياً ممتعاً، خارج الروتين الجامعي المفعم بالنقاشات الجدّية. كنّا في هرجٍ ومرج، وفي طريق العودة توقفنا فجأة عن الغناء. توقفت البوسطتان اللتان كنا على متنهما، بأمرٍ من عناصر حاجز مسلّح قرب منطقة «غاليري سمعان». من بوسطتنا نزل نصير الأسعد، ومن البوسطة الثانية نزل «فقهاء» آخرون للتفاوض مع المسلحين. وطالت المفاوضات. صعد المسلحون إلى البوسطة، استعرضونا واحداً وواحدةً. تفرسوا في وجوهنا، ونحن «مثل الأطرش بالزفة». لم نكن على علمٍ بما حدث ذلك النهار، وأقصد من الكحالة إلى عين الرمانة، حتى وصولنا إلى منازلنا والاستماع إلى نشرات الأخبار. كدنا أن نكون صيداً ثميناً لمسلحي حاجز «غاليري سمعان». ومرّ القطوع، من دون أن يتوقع أحد منّا أن تلك كانت الشرارة الأولى لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.

عصام خليفة
(مؤرخ وأستاذ جامعي)
كنت أستاذاً مدرسياً في ذلك الوقت، وفي ذلك التاريخ بالضبط، كان معنا تلامذة من البترون، من ثانوية البترون الرسمية، حيث كنت أعلّم، وكنّا في رحلة مدرسية إلى البقاع. المفارقة أننا في ذلك اليوم، أي الأحد، الذي وقعت فيه الحادثة، مررنا بعين الرمانة في طريقنا إلى البقاع. كنّا في بوسطة أيضاً وكان معنا تلامذة. وحين وصلنا إلى البترون لزيارة مشروع الليطاني ولمعاينته عن قرب، عرفنا بالحادثة هناك. وبعد البوسطة بدأت حربنا لإيقاف الحرب.