كثيرون يترقبون حلول ساعة الصفر التي تعلن فيها الدولة اللبنانية إقفال التعليم الأساسي الرسمي. ثمة شعور عام بأن هناك توجهاً ضمنياً لإنهائه. يعزز هذا الشعور صعود أصوات في الآونة الأخيرة تخدم هذا الطرح، كأن يطالب أمين عام المدارس الكاثوليكية بطرس عازار بتلزيم التعليم الرسمي للتعليم الخاص لأنه فاشل. ويقول في حديث تلفزيوني: « الاهل في المدارس الخاصة يسددون الضرائب مرتين: الاولى للدولة حتى تدفع رواتب المعلمين والموظفين في القطاع الرسمي والثانية للمدارس الخاصة لتعليم أولادهم» وأن يقول رئيس نقابة المعلمين في المدارس الخاصة نعمه محفوض بأنّ التعليم الخاص ناجح بعكس التعليم الرسمي، كما لو أن الأمر مفاضلة لا سياسات ومصالح.
وليس آخر الأصوات ما قاله النائب القواتي أنطوان زهرا في جلسة مساءلة الحكومة بأنّ الأستاذ لا يعلم أكثر من 5 تلامذة، داعياً إلى إلغاء المنح التعليمية ووضع المعلمين لأولادهم في المدارس الرسمية، بوصفه عقاباً لهم بتخفيض أجورهم غير المباشرة وليس بوصفه دافعاً إلى الإصلاح.

يخرج 800 مدرّس
إلى التقاعد كل سنة

الشعور أيضاً نابع من مؤشرات أخرى كثيرة: الاعتماد الكلي على أموال المجتمع الدولي ومشاريعه وغياب الخطط البديلة (ماذا لو انتهت الأزمة السورية غداً؟)، الاستجابة لتوصيات البنك الدولي ومؤتمر باريس ـ3 بوقف التوظيف وترشيد الإنفاق، المضي في دفع المنح التعليمية لموظفي القطاع العام بشقيه المدني والعسكري، ومنح التعليم المجاني الذي تؤمنه مدراس الطوائف والمذاهب، وعدم مبادرة أي من وزراء التربية المتعاقبين إلى تنفيذ القانون 150/2011 الذي يجيز للوزير الطلب إلى مجلس الخدمة المدنية تنظيم مباراة عند كل حاجة، وقد فعل وزير التربية الياس بو صعب ذلك للتعليم الثانوي دون الأساسي.
في الأصل، لم ينشأ هذا التعليم نتيجة سياسة تربوية وطنية بدليل استبدال الحكومات تطبيق قانون إلزامية التعليم ومجانيته (القانون الرقم 686 بتاريخ 16 آذار 1998 وتعديلاته) حتى سن الخامسة عشرة، بـ «مكرمات» الدول المانحة، وعدم اكتراثها عن سابق تصور وتصميم بتأمين خدمات تربوية تنافسية مع كارتيل المدارس الخاصة، ومنها تطوير أداء إدارات المدارس، تدريب المعلمين وحسن توزيعهم وتكليفهم بمهمات مناسبة لكفاءاتهم واعتماد خريطة علمية لتوزيع المدارس على قاعدة معرفة عدد التلامذة الذين يقطنون في المكان وأعمارهم وتوفير الأبنية المدرسية الملائمة والمجهزة.

ضعف الروضات

المشكلة الكبرى التي يواجهها التعليم الأساسي تكمن في التفاوت الحاد في نوعية التعليم بين القطاعين الرسمي والخاص. المقاربة الوحيدة التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة في ما تسميه «الاستراتيجية العامة» إلى جانب «ثقافة الاعانات» أو «الشحادة» هي الشعار الترويجي «مقعد لكل تلميذ»، لكن لا أحد يعرف ماذا يفعل هذا التلميذ على هذا المقعد في التعليم الأساسي الرسمي؟ ما هي نوعية التعليم التي يتلقاها ولا سيما في الحلقتين الأولى والثانية (من الأول حتى السادس ابتدائي)، وهل سنّ الالتحاق بالتعليم والخدمات التربوية المتوافرة في المدارس الرسمية توفر لأبناء هذا القطاع تكافؤ الفرص مع أترابهم في التعليم الخاص؟ وماذا عن كفاءة المعلمين وتدريبهم؟
أحد أهم أسباب الإقبال على التعليم الخاص ضعف مرحلة الروضات في التعليم الرسمي. هذه المرحلة غير معممة على جميع مدارسه، وهي لم تنشأ حيث توجد إلا منذ زمن يسير، ودون بناء مناسب وتجهيزات مناسبة في أغلب الأحيان وكذلك من دون عدد كاف من المعلّمات صاحبات الاختصاص. ويشير تربويون متابعون إلى أنّ هذه المرحلة قابلة للإقفال بالكامل في ما لو غادرها التلامذة السوريون. يرى هؤلاء أنّ وزارة التربية لم تلحظ أي ترتيب لتوظيف حملة اختصاص رياض الأطفال، لا سيما متخرجي كلية التربية في الجامعة اللبنانية لتعزيز هذه المرحلة، مؤكدين أنّ المطلوب هو إعادة هرم التعليم الرسمي إلى قاعدته الطبيعية لكونه هرماً مقلوباً رأساً على عقب، على حد تعبيرهم.

33.4 % من التلامذة في التعليم الرسمي

بحسب آخر إحصاء للمركز التربوي للبحوث والإنماء للعام الدراسي 2015 ـ 2016، يدرس نحو 259 ألفاً و804 تلامذة لبنانيين وغير لبنانيين في 996 مدرسة في دوام قبل الظهر وهناك، بحسب تصريحات وزارة التربية، نحو 210 آلاف تلميذ سوري في 277 مدرسة في دوام بعد الظهر. في موازاة ذلك، يبلغ عدد تلامذة المرحلة الأساسية في التعليم الخاص غير المجاني والمجاني ومدارس الأونروا من الروضة حتى التاسع أساسي 516 ألفاً و246 تلميذاً، أي أن نسبة تلامذة التعليم الأساسي الرسمي إلى نسبة التلامذة في هذه المرحلة هي 33.4%. فقط.

نصف مدرسي الملاك إداريون

ومن أصل 17 ألف مدّرس في الملاك، هناك نحو 8500 مدرّس، أي نصف عدد المدرسين، يقومون إما بأعمال إدارية / تربوية في المدارس والمناطق التربوية وبعض الإدارات أو منتدبون إلى التعليم الثانوي للقيام بأعمال إدارية أيضاً. يقابل هذا العدد من مدرسي الملاك 11 ألف مدرّس متعاقد وألفي مدرس مستعان بهم من دون عقود، في حين يخرج سنوياً إلى التقاعد 800 مدرّس على الأقل.

لا تشريع موحد بين المعلمين

تتعدّد القوانين التي تحدد أسس تعيين المدرّس في التعليم الأساسي، على عكس ما هو قائم في التعليم الثانوي الرسمي. في هذا التعليم من هو معيّن في الدرجة الأولى، ومن هو معين في الدرجة الخامسة عشرة مروراً بالدرجة السادسة والدرجة السابعة والدرجة التاسعة والدرجة الحادية عشرة، وكلّهم يعلّمون الصفوف نفسها، وساعات العمل نفسها، فضلاً عن أنهم في الفئة الوظيفية نفسها (الفئة الرابعة) ويتبعون جميعاً مديرية التعليم الابتدائي.
ومن مفاعيل هذه القوانين أن تحولت المدرسة إلى ساحة معركة بين المعلمين، «الأعداء»، فبعض من تعيّن حديثاً مارس الاستعلاء على أقرانه واعتبر أن من حقّه الاستفادة من الدرجات التي قد تُعطى لغيره في مشروع سلسلة الرتب والرواتب. ومن كان مجُازاً سابقاً شعر بالإهانة والغبن والظلم حيث وجد أن سنوات خدمته وإجازته لا قيمة لها.
في هذا التعليم، عشرات الآلاف من المتعاقدين الذين يعملون من دون ضمانات اجتماعية وصحية، ومن دون رواتب شهرية. لقد تجاوز بعضهم العمر الذي يتيح له التقدم إلى مباريات مجلس الخدمة المدنية، وبعضهم نسي أسماء المواد التي تعلّمها في الجامعة ومضمونها.
أما للمستعان بهم، أو «اللقطاء» كما سمتهم رابطة مدرسي التعليم الأساسي، أخيراً، فحكاية أخرى. هم ليسوا بالمِلاك بطبيعة الحال، وليسوا متعاقدين، لكنّهم يعلّمون في المدارس الرسميّة بطلب من وزارة التربية التي أجرت لهم اختبارات أهليّة، لكنها ونزولاً عند قرار مجلس الوزراء بمنع التعاقد، لا تستطيع توقيع عقود تعاقد معهم. وهم حتى الآن لم يقبضوا مستحقاتهم ولا يدرون هل تستمر الاستعانة بهم في السنة المقبلة أم لا؟

* للمشاركة في صفحة «تعليم» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]