لا شك في أننا أهملناه كثيراً، ونسيناه كثيراً، بعناه واشتريناه، تفرّجنا بصمت على تدميره ثم هجرناه. خنّاه باسم أوهام التطوّر. وكعادتنا، لم نكن نبيع ونخون إلا أنفسنا في نهاية الأمر. سلّمنا ذوقنا ومخيّلتنا وضميرنا ووجداننا الوطني وسلمنا الأهلي ووحدتنا، لملوك الطوائف، أو لديكتاتوريّة السوق.
«تعرّينا» مباشرةً على الهواء، ليحيا «لبنان المبادرة الحرّة»! ذات مرّة كان عندنا رئيس حكومة لديه محطّته الخاصة، إضافة إلى 49 في المئة من أسهم الشركة المساهمة المختلطة التي كانت تمتلك «تلفزيون لبنان» (منذ 1996 بات بالكامل ملك الدولة اللبنانيّة). تفرّجنا عليهم بصمت يفرّطون بتلفزيوننا: وهذا اسمه تواطؤ الضعيف أو العاجز. قلّبنا الصورة على محطات أخرى عصرية، ومتطورة تقنيّاً، وأكثر جرأة وابتكاراً. تركناه يمضي وحيداً في «رحلته إلى الجحيم» بتعبير جان كلود بولس أحد مدرائه. نسينا في العلبة القديمة صوراً بالأبيض والأسود، لعصر ذهبي مجهض، لوطن كسرته أحلامه. هكذا هو اللبناني «الذي يأخد أمه يسمّيه عمّه». حاول فؤاد نعيم حين تسلّم القيادة أن يفعل شيئاً، لكن سدىً. في الحقيقة ما كان يحدث مع التلفزيون الوطني («العمومي» في المغرب العربي) يشبه الى حد بعيد ما حدث ويحدث مع الدولة اللبنانيّة كلّها. هذه الدولة التي تتناهشُ مؤسساتِها الجماعاتُ والطوائف وتكتلات المصالح. تلفزيون لبنان قضمته الطوائف وقوى الأمر الواقع، تلك التي انتزعت تراخيصَها بمرسوم مخالف للمنطق والقانون والمصلحة الوطنيّة… في أعظم عمليّة «محاصصة» على الأثير! المشكلة أن المصلحة الوطنيّة هي غير مصالح الطوائف، حتّى ـــ بل خصوصاً ـــ حين تتحالف تلك الطوائف أو توقّع اتفاقات هدنة في ما بينها. المصلحة الوطنيّة هي غير مصالح الطوائف، لكن المصلحة الوطنيّة في لبنان تصونها الطوائف. من الطبيعي إذاً أن يفرّط الجميع بالمصلحة الوطنيّة. نأمل ألا تصل اللعنة إلى «شركة كهرباء لبنان» قريباً، فيَفرُطها حكّام «جمهوريّة الموز»، لبيعها في سوق «الكسر»، وقبض «الكوميسيون».
لكن لنعد إلى تلفزيون لبنان. هناك اليوم أمل بصحوة أو انبعاث، في زخم العهد الجديد، وحماسة وزير اعلام يطمح إلى التحديث، وظروف حكومة تتوق إلى تعويض سياسات إفقار الطبقة الوسطى، ومواصلة الاستيلاء على الموارد وتقاسم المغانم، وتكريس نظام الماخور الطائفي. سمعنا وعوداً واهية كثيرة من أسلاف الوزير ملحم رياشي، لكن لسبب ما حين نسمع وعوده الآن، ينتابنا شعور إنّها اللحظة المؤاتية لبعث «تلفزيون لبنان» واحيائه. عسانا لا نُخذل هذه المرّة! هل حان وقت استعادة التلفزيون الوطني من قبل أصحابه، أي الناس، بغض النظر عن العقيدة والانتماء والمذهب؟ تلفزيون الشعب، مدرسة المواطنة، أمن الممكن اعادة الاعتبار إليه كإحدى المؤسسات الأساسيّة (كالتعليم والصحّة والخدمات العامة والأمن القومي) التي بوسعها أن تصوغ الوجدان الوطني، وتصنع السلم الأهلي، وتبعث نهضتنا الثقافيّة؟ نهضة نحتاجها في مستنقع الأميّة الاستهلاكيّة، ودراكولا التكفيري الذي يعتاش على دم الآخر، والتبعيّة الرعناء للنموذج الغربي المهيمن حتى فقدان الصلة بالهويّة العربيّة.
هل نحلم مجدداً بتلفزيون للجميع، لا يخضع لضغط السوق والاعلانات و«الرايتينغ»، ولا لوصاية ملوك الطوائف؟ تلفزيون يعرف كيف يستقطب المشاهدين، ويحمي النوعية، ويحيي الانتاج الدرامي والوثائقي، ويستثمر كنوز الأرشف، ويقدم البرامج السياسية والاجتماعية والرياضيّة والفنية والثقافية الراقية. تلفزيون تعطى له الامكانات التقنية والبشريّة والانتاجيّة، ويديره مجلس ادارة من المحترفين المؤتمنين على المصلحة العامة، ويرأسه شخص غير فئوي، مسكون بهاجس بناء اعلام حرّ وخلاق ومهني ومستقل ونقدي. ربما استرسلنا في الحلم. لكننا «محكومون بالأمل»، وسنبقى نطالب بـ «إصلاح وتغيير».. قد يبدآان من التلفزيون، قبل البرلمان حتّى.