باريس | بوجود جان لوك ميلانشون، ضمن قائمة المتنافسين الأربعة الذين تنبأت لهم الإحصائيات بأوفر الحظوظ للمرور إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، يعود اليسار الراديكالي إلى واجهة الساحة السياسية كقوة معتبرة.
هذا إلى جانب الشعبية التي يحظى بها مرشح «فرنسا المتمردة» في صفوف المهاجرين الذين حصلوا على الجنسية الفرنسية. لكن هل كون ميلانشون الخيار الجدي الوحيد بالنسبة إلى اليسار، يجعل منه حتماً الخيار الأفضل؟
لنطرح أولاً بعض البديهيات: نعم، برنامج ميلانشون الاقتصادي إيجابي، إذ ينأى المرشح بنفسه عن مقترحات منافسيه الليبيرالية، فضلاً عن أنه يهتم، بجدية، بالمسألة البيئية، وينادي بوقف الطاقة النووية. كذلك، من الناحية السياسية البحتة، وصول ميلانشون إلى الرئاسة، إن حصل، سيشكّل حدثاً تاريخياً لليسار الراديكالي، خاصة بعد تدهور صورة الحزب الاشتراكي، إذ إنه يعني فوز تكتل يساري يضم الحزب الشيوعي، وهو أمر لم يحدث في فرنسا منذ فترة فرانسوا ميتيران، بل وبفرق مهم: يحدث ذلك بعد عهدة (ولاية) حكومة اشتراكية، في حين أن وصول اليسار إلى الحكم تحت الجمهورية الخامسة كان دائماً ردّ فعل على سياسة اليمين.
لكن إلى جانب هذه النقاط الإيجابية التي لا ننفيها، أليس من المغالطة غض الطرف عن تناقضات خطاب ميلانشون وتنافيه في بعض النقاط مع قيم اليسار؟ لن نتحدث هنا عن علاقة ميلانشون المتوترة مع الصحافة (رغم كل الانتقادات المشروعة ضد صحافيي المنظومة القائمة)، التي تذكرنا بممارسات مثله الأعلى ميتيران الذي لا يمكن اعتباره حقاً من أصدقاء حرية الصحافة.
كغيره من المرشحين، يقدّم جان لوك ميلانشون نفسه مرشحاً «ضد المنظومة»، حاملاً خطاباً لاذعاً ضد من يدعوهم «طبقة المحظوظين» (caste de privilégiés) الذين يعيشون «في قطيعة مع الشعب». وقد يَعجب المتابع لمسيرة المرشح لمثل هذا الكلام، وهو الذي أمضى 24 سنة عضواً لمجلس الشيوخ تحت راية الحزب الاشتراكي! بل إن ميلانشون يعد بقلب الطاولة وبالخروج مما يدعوه «الملكية الرئاسية» (la monarchie présidentielle) من خلال مجلس تأسيسي سيعمل على إرساء الجمهورية السادسة. ما من شك في أن المقترح مغرٍ، خاصة بعد عهدة لم تتردد في خلالها الأغلبية الاشتراكية في استعمال بند الـ49-3 لفرض قوانين رفضت غالبية النواب التصديق عليها. لكن كم من الزمن يحتاج ذلك؟ وماذا سيفعل ميلانشون في الأثناء غير امتثاله، كمن سبقه، إلى قوانين اللعبة الرئاسية وسلطتها المفردة؟
يتمرد كذلك ميلانشون على هيمنة مؤسسات الاتحاد الأوروبي في خطاب قومي سيادي يدعو إلى «المحافظة على مصالح» فرنسا، وينتقد من خلاله القانون الأوروبي حول العاملين المستقلين. وهذا القانون الذي جرى تبنيه سنة 1996 بمبدأ حرية حركة اليد العاملة داخل الاتحاد، يقضي بأن لكل مشغل أوروبي الحق في إرسال العاملين بشركته إلى بلد أوروبي آخر للعمل لمدة سنتين، مقابل نفس الأجر الذي يتقاضاه في البلد الأصلي، فنتج من ذلك أن قام عدد كبير من أصحاب الشركات في البلدان الغنية ــ خاصة ألمانيا وفرنسا ــ بجلب يد عاملة بخسة الثمن، الأمر الذي علق عليه جان لوك ميلانشون خلال جلسة بالبرلمان الأوروبي مطلع تموز 2016 قائلا إنّ هؤلاء العمال «يسرقون قوت العمال المحليين». وميلانشون هنا في معارضته لقول ماركس: «العمال لا وطن لهم»، وكأنه ينافس رئيسة حزب اليمين المتطرف مارين لوبن، التي عودتنا بخطاب «فرنسا للفرنسيين». وقد تبرأ من ذلك، قائلاً إنه لم يتحدث عن «العمال الفرنسيين»، بل «العمال المحليين»، أي الموجودين بفرنسا، ولا سيما الأجانب. لكن ألم يكن الأجدر به أن ينتقد أصحاب رؤوس الأموال الذين شجعوا هذه السياسة؟
حديثنا عن الأجانب يجرنا إلى الحديث عن الهجرة، وهو الموضوع الحاضر الغائب في خطاب «فرنسا المتمردة». فبرنامج رئيسها يقتصر على اللاجئين، أما عن بقية المهاجرين، طلبة كانوا أو عمالاً، فيكتفي ميلانشون بتأكيد ضرورة خلق جميع الظروف الملائمة، سياسية كانت أو اقتصادية، حتى لا «يترك المهاجرون بلادهم». هنا أيضاً، تبدو طموحات المرشح بعيدة المدى (وقف الحروب، وكأن الأمر بيد فرنسا وحدها، ومراجعة التبعية الاقتصادية التي تعاني منها البلدان النامية) دون خطة واضحة في الأثناء. نفس الغموض يطغى على المسألة السورية، إذ تارة يستحسن ميلانشون التدخل الروسي في حلب، وكأن طيران بوتين لا يستهدف إلا عناصر «داعش»، وأخرى يستنكر الصور المفجعة للضحايا المدنيين، مقتصراً في برنامجه على معجزة «الانتخابات النزيهة والشفافة» لحل المعضلة السورية.
تظهر من خلال هذه النقاط ميول ميلانشون الشعبوية، التي يتولاها بعض المحللين الذين ينتمون إلى دائرة المرشح الضيقة، مثل المتخصصة في علم الاجتماع شانتال موف، التي تنادي بتأسيس «شعبوية يسارية» تتناقض مع شعبوية اليمين. بيد أن هذه الشعبوية تنافس اليمين بتبنيها كذلك لرموز قومية، كما نلاحظه من خلال تطور خطاب ميلانشون في الفترة الأخيرة، وتبنيه للنشيد الوطني الرسمي في نهاية تجمعاته على حساب نشيد الأممية كما هي العادة في تجمعات اليسار، ولا سيما الاشتراكي. بل ويرى المتخصص الآخر في علم الاجتماع ايريك فاسان، في حوار له مع جريدة «ميديابارت»، خطراً في هذا المنعرج، لأن منطق الشعبوية يُغيّب في نظره منطق صراع الطبقات، المؤسس الرئيسي لنقد الخطاب الليبيرالي: «خطأ كبير أن يقوم ميلانشون بتعبئة مشاعر الحقد ضد النخبة من خلال سجن المخيال الجماعي في إطار القومية الضيق، من خلال عبارات مثل: إرجاع فرنسا للفرنسيين».
إذاً، لمَ يدعو اليساريون إلى دعم ميلانشون؟ طبعاً، هناك الواقعية السياسية، التي يقبل بموجبها الناخب بضرب عرض الحائط ببعض قيمه من أجل الوصول إلى حل ناجع، وإن كان ناقصاً. وربما هي كذلك «الحاجة إلى الوهم» كما قال عضوان من لجنة «غير المرئيين» ذات الميول الأناركية في حوار لهما مع جريدة «لوموند». الحاجة إلى الإيمان بأن تغييراً ما يمكن أن يطرأ بطريقة قانونية وعبر واجب المواطنة، أي ــ بصيغة أخرى ــ الإيمان بمعنى الديموقراطية ونجاعتها، لأنها الطريق الوحيدة التي سُمح للشعوب بتوخيها. فما أصعب أن تكون في الآن نفسه يسارياً صادقاً... ومطيعاً!