يتمتم إلياس عساف غاضباً وهو يجمع أكواز الصنوبر التي يعاونه عامل سوري في قطفها. حقله في مرج بسري (قضاء جزين) تتنوع فيه الأشجار المثمرة والزيتون. «يريدون أن يسرقوا مني روحي التي هي أرضي». هو واحد من أصحاب الأراضي التي ستتملكها الدولة لإنشاء سدّ بسري. مصيبة الرجل كبيرة.
يشعر بأنه يخون وصية والده الذي توفي قبل أربعين يوماً. «فرّط بالدني كلها ولا تفرط بالصنوبرة التي زرعتها بيدي» قال له. لكن الدولة «بدها تفرّط فينا». يشير إلى القرى المترامية على جانبي الوادي الساقط بين قضاءي جزين والشوف. قرى ليست ضائعة بين الحقول والبساتين وأحراج الصنوبر فحسب، بل أيضاً «بسبب إهمال الدولة الذي دفع نصف أبنائها إلى الهجرة منذ عقود، فيما تولّت الحرب الأهلية تهجير معظم النصف الآخر»، واليوم «تخطط الدولة لتهجير من تبقى من خلال تشليحنا أراضينا».
كثيرون لم يسمعوا سابقاً بالقرى المخطوطة أسماؤها على اليافطة الزرقاء عند مفترق بسري: خربة بسري والميدان وتعيد وبتدين اللقش والحرف والغباطية. لهذه القرى حصة في وادي بسري إما عقارياً أو من خلال ملكيات عدد من أبنائها. عام 1960، حقق سليمان أبو سليمان، من قرية تعيد، حلمه بشراء 200 دونم في المرج. تحمّل أربع سنوات قضاها في شق سد القرعون لجمع الأموال. مذّاك «زرعت حياتي في البستان» يقول ابن الـ 85 عاماً. بعصاه التي يتكئ عليها، يدل على حرج الصنوبر الذي زرعه بيده قبالة أرضه. «الحرج الذي يقصده أبناء صيدا وجزين والشوف، سيتحول إلى حطب للمدافئ مع أشجار الحمضيات واللوزيات في بستانه». يأسف العجوز لأن الدولة «تذكرتنا بجرف أراضينا بدل أن تتذكرنا بمشروع خدماتي. يعني بدل ما تشجعنا على البقاء عم تفزعنا. أنا وأولادي وأحفادي سنقدم طلب هجرة إلى دولة أجنبية».

«أوعا تكون مضيت»

«أوعا يكونوا مضيوا في الحرف؟». يسأل كمال كيوان من بلدة باتر المطلة على الوادي. الاستقصاء عمن وقّع موافقاً على استملاك أرضه بات الشغل الشاغل للرافضين لمشروع إنشاء السد. يواجه هؤلاء جولة مجلس الإنماء والإعمار للحصول على تواقيع أصحاب الأراضي، بجمع تواقيع أهالي البلدات المعنية على عرائض ترفض المشروع. يقرّ كيوان بأن الموقف الشعبي ليس موحداً، إما بسبب نزوح الكثيرين عن بلداتهم التي لا يزورونها أو بسبب الضغوط التي يمارسها الزعماء النافذون في المنطقة. يؤكد فاروق ذبيان من مزرعة الشوف بأن لا حسابات حزبية وراء موافقته على المشروع: «20 ألف متر مربع من أرضي سيجرفها السد في طريقه. سييبقى لي 50 ألفاً أخرى أزرعها وأعيش منها. لكني بتعويضات العشرين ألفاً أستطيع أن أصمد في المزرعة وأن أزوّج ابني وأعلّم باقي أولادي». يقول: «الناس ميتة الجوع في هذه المنطقة المحرومة. بدنا مصاري. إذا لم يهجّرنا السد، فسنرحل عاجلاً أم آجلاً بسبب الحرمان».
لذبيان أقران كثر. الورثة المتعددون للأراضي والغائبون عن ملكياتهم وقعوا على الاستملاك. «هناك من لا يشعر بالانتماء إلى أرضه ويريد أن يشتري شققاً في بيروت. أنا زلمي تعبان بأرضي ولن أستغني عنها»، يؤكد عساف.

السد يطيح بالمحمية

لجنة الأشغال في المجلس النيابي حدّدت موعد بدء الأشغال في أيلول المقبل على أن تنتهي عام 2023. تسارع خطوات المشروع يترافق مع تسريع الاعتراضات على استملاك نحو 570 هكتاراً من الأراضي الزراعية والطبيعية. بلدية الميدان كانت أول من تصدى للمشروع بتقديمها مراجعة أمام شورى الدولة لإبطاله (آب 2015) بعد شهرين من إقراره في مجلس الوزراء (معظم البلديات إما وافقت أو لم تبد رأيها، فيما قائمقام جزين وافق بالنيابة عن القرى التي ليست فيها بلديات). تضمنت المراجعة أسباباً عدة تبين الأخطار الحقيقية التي ستنتج من المشروع في حال مباشرة التنفيذ مع ما لذلك من ضرر سيطال سكان القرى المحيطة الواقعة في قضاءي جزين والشوف. واستعرضت أهمية سهل بسري الزراعي وما يتضمنه من معالم أثرية وتراثية. والأهم أنه ضمن منطقة فوالق زلزالية أهمها فالق روم ــــ عازور المدمر غير الخامد الذي يتحرّك باستمرار.

«الناس ميتة الجوع إذا لم يهجرنا السد، فسنرحل عاجلاً أم آجلاً بسبب الحرمان»


واللافت أن الدولة التي قرّرت جرف مرج بسري، هي نفسها صنّفته محمية طبيعية بموجب القرار الوزاري رقم 131 عام 1998 الصادر عن وزارة البيئة، والذي اعتبر نهر بسري ــــ الأولي الذي ينبع من جبل الباروك، «البارك ــ المتنزه الطبيعي» المناطقي. بحسب المراجعة، يضم الوادي منظومة طبيعية متكاملة من الثروة الحرجية والحقول الزراعية والمروج وغابات الصنوبر وأشجار القصب والصفصاف التي تنمو على ضفاف النهر والسنديان والسرو والبيوت الزراعية البلاستيكية في تربة خصبة. كما يضم معالم أثرية وتراثية منها المعبد والجسر الروماني المرتبط بمعبد وادي أشمون على نهر الأولي وكنيسة مار موسى وقناة خاسكية وقلعتا أبو الحسن ونيحا. واللافت أن المشروع يلحظ نقل تلك المواقع إلى أمكنة أخرى!
ماري دومينيك عواد من الميدان لفتت إلى أن الوزراء المعنيين بالمشروع لم يقوموا بزيارة ميدانية للموقع حتى الآن. هي وسواها ينتظرون زيارة الدولة التي تفرض عليهم مشروعها من بعيد ليستعرضوا مساحة 5 ملايين و700 ألف متر مربع من الأراضي الزراعية يهددها السد، تنتج سنوياً 125 مليون دولار. فيما قيمة التعويضات تغطي موسماً أو اثنين. حذرت عواد من خطر جرف القرى الواقعة على جانبي السد حتى صيدا في حال تحرّك الفالق الزلزالي الواقع تحت السد. ومن المخاطر، الغازات السامة التي ستنبعث من البحيرة حيث تتجمع مياه‌ النهر المليئة بالصرف الصحي والأوساخ، مع التشكيك في إدارة سليمة لمحطات تكرير الصرف الصحي المزمع إنشاؤها على ضفتيه.




مشروع معجل مكرر... منذ الخمسينيات!

قبل عامين، وافق مجلس الوزراء على مشروع مرسوم يرمي إلى اعتبار الأشغال العائدة لمشروع إنشاء سد وبحيرة بسري وتخطيط طريق لتمرير خطوط الجر نحو بركة أنان في بعض قرى وبلديات قضاءي الشوف وجزين من المنافع العامة. علماً بأن الفكرة تعود إلى عام 1951 حين وضعت الدراسات الأولى لمشروع إنشاء سد بسري التي انتهت بعد ثلاث سنوات، بحث خلالها ميدانياً على موقع لإنشاء سد على نهر بسري. عام 1975، قامت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني بمزيد من الاستقصاءات الجيولوجية. وفي سنة 1980 تم التوقيع على اتفاق بين المصلحة الوطنية لنهر الليطاني وشركتين هندسيتين لإجراء دراسة الجدوى. عام ١٩٩٩، كلف مجلس الوزراء مجلس الإنماء والإعمار بتحديث الدراسة والمباشرة بالإجراءات المتعلقة بتنفيذ المشروع. وفي عام ٢٠١٢، كلف «الإنماء والإعمار» الاستشاري «دار الهندسة» وشركة «نوفك» (مجموعة مندمجة) استكمال الدراسات وإعداد ملفات التلزيم ومؤازرة المجلس خلال عملية تلزيم وتنفيذ الأشغال في المشروع.
يستكمل سد بسري مشروع جرّ مياه الأوّلي إلى بيروت الذي سيؤمن 250 ألف متر مكعب من المياه في اليوم الواحد، أي نصف الحاجة المطلوبة. السد سيسد الحاجة المتبقية بتأمين المياه للعاصمة. بحسب المجلس، فإن البنك الدولي سيموّل المشروعين بقرضين يبلغان 800 مليون دولار و170 مليوناً لدفع التعويضات. فيما يؤمن البنك الإسلامي قرضاً بقيمة 170 مليون دولار لمعالجة الصرف الصحي الذي تحوله البلدات المحيطة بوادي بسري إلى النهر لكي تكون المياه المجمّعة في البحيرة نظيفة.




«يا بلاش» المتر بـ 40 ألف ليرة!

شكا الأهالي من مسح غير عادل للأراضي لتخمين التعويضات. فقد قرر مجلس الإنماء والإعمار احتساب مساحة الأرض بالأمتار وعدد الأشجار المزروعة للتعويض عن كل متر وكل شجرة. ولاحظ كثيرون أن العدد المسجل على الورق أقلّ بكثير من العدد الحقيقي، ما دفعهم إلى الاعتراض أمام محكمة جزين. أرض سليمان أبو سليمان، على سبيل المثال، «سُجلت مئة دونم بدل 200، فيما حقل الزيتون سُجّل على أنه أرض بور». فيما يسخر الياس عساف من احتساب سعر متر الأرض بـ40 ألف ليرة، فيما الموسم يجني مئات الآلاف في السنة الواحدة.