يبدو أن شهر نيسان هو شهر المؤامرات بامتياز لليمين الفنزويلي. في الحادي عشر من نيسان 2002، كان هوغو تشافيز يواجه أكبر مؤامرة حاكتها الاستخبارات الأميركية، ونفذتها دمى المعارضة الداخلية، لإطاحة حكمه، بعد فوزه التاريخي بانتخابات الرئاسة.
كادت المؤامرة الأميركية تحقق أهدافها، لولا أن الشعب التف حول رئيسه المنتخب، فعاد إلى قصر ميرافلوريس، بعد 48 ساعة، ربما كانت الأطول في تاريخ فنزويلا الحديث، بعد أحداث دراماتيكية متسارعة، وثّقها كيم براتلي، ودونكا بريين، في فيلمهما الشهير «الثورة لن تكون متلفزة».
تلك العودة الظافرة للرئيس الآتي من صفوف الجيش الفنزويلي، أفرزت اقتناعاً راسخاً لدى تشافيز بأن النضال بطابعه الاقتصادي ــ الاجتماعي أكثر ثباتاً من الانقلابات العسكرية، التي خاض أحدها في مطلع التسعينيات.
على هذا الأساس، أطلق تشافيز ثورته الكبرى، من موقعه رئيساً لواحدة من أكثر الدول اللاتينية غنىً بالثروات الطبيعية، وفي مقدمها النفط، الذي راح يستثمر عائداته في مشاريع تنموية تجاوزت الإطار المحلي، لتتخذ منحى قارّياً، بعد تأسيس «البديل البوليفاري»، الذي تحوّل بسرعة قياسية إلى مشروع تكاملي بين الدول اللاتينية.
صحيح أن اليسار اللاتيني في القارة اللاتينية شهد خلال السنوات الخمس عشرة المنصرمة انتكاسات، وحالات من المد والجزر، سواء في عهد تشافيز، أو بعد رحيله في عام 2013، إلا أن فنزويلا لا تزال تقاوم، وتحاول حماية تجربتها، برغم كل الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة، من الخارج والداخل في آن واحد.
في سياق المحاولات الدؤوبة التي تقوم بها الولايات المتحدة لإسقاط ما تبقى من أنظمة يسارية في أميركا اللاتينية، يبدو أن ثمة من يريد استعادة أجواء نيسان 2002 التآمرية، في الداخل الفنزويلي، ويبدو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قرر إسقاط نيكولاس مادورو، بـ«الكاتالوغ» الجمهوري نفسه، الذي لجأ إليه سلفه جورج دبليو بوش، لإسقاط هوغو تشافيز قبل 15 عاماً.
انطلاقاً من ذلك، يمكن فهم طبيعة الأزمة السياسية القائمة في فنزويلا حالياً، والتي تقترب من أن تكون حرباً فعلية، تشنها الولايات المتحدة، عبر أدواتها الداخلية، لإطاحة نيكولاس مادورو، خليفة تشافيز، الذي يخوض أكبر النزالات السياسية، وأشدها خطراً، منذ أن نجحت المعارضة اليمينية في استغلال مكامن الخلل في النظام السياسي من جهة، والأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد نتيجة لانخفاض الأسعار العالمية للنفط الخام، من جهة ثانية.
وتبدو المعارضة اليمينية، الممثلة للمصالح الرأسمالية في البلاد، ماضية في التصعيد ضد النظام اليساري في فنزويلا، في سياق ثأري، للانقضاض على الإجراءات الاقتصادية، التي اتخذها تشافيز خلال سنوات حكمه الاثنتي عشرة، ومن نتائجها تأميم مئات الشركات للقضاء على الاحتكارات الرأسمالية، وتمويل برامج التنمية الاجتماعية.
لهذا الغرض، لم توفّر المعارضة الفنزويلية، عبر شبكة المصالح الرأسمالية المرتبطة بها، سلاحاً لشن الهجوم المضاد على النظام البوليفاري، والتي اتخذت منحى تصاعدياً منذ رحيل تشافيز، ووصول مادورو إلى الحكم.
ولعلّ الاقتصاد كان السلاح الأمضى في يد اليمين الفنزويلي، الذي اقتنص فرصة تراجع العائدات العمومية، نتيجة لانخفاض سعر النفط من جهة، والخلل في الجهاز البيروقراطي للدولة الفنزويلية، ولا سيما في المجال الخدماتي، فراح يفاقم الأزمة المعيشية التي تمثلت في شح السلع الاستهلاكية، وذلك من خلال مضاربات غير مشروعة أدت إلى ارتفاع جنوني في الأسعار.
وسرعان ما استفادت المعارضة اليمينية من ذلك، في انتخابات عام 2015، التي انتهت باستحواذها على غالبية المقاعد في الجمعية الوطنية، وهو ما شكل فرصة تاريخية للانقضاض على الإصلاحات الاقتصادية ــ الاجتماعية التي وضع تشافيز أسسها، بدءاً بإلغاء مشاريع توفير السكن للفقراء، وصولاً إلى عرقلة الشراكة بين شركة النفط الحكومية «بي دي في أس آيه» وشركات طاقة روسية.
وعلاوة على ذلك، فقد جرت محاولات ــ لا تزال مستمرة ــ لتقليص صلاحيات الرئيس من جهة، والعمل على إسقاطه، سواء بانتخابات مبكرة، أو بتحريض الجيش الفنزويلي على القيام بحركة انقلابية، تحت شعار «حماية الدستور»!
وفي ظل الاستمرار في التصعيد على المستوى الاقتصادي ــ ومن أحدث أشكاله طلب من البرلمان إلى المصارف الدولية الكف عن تقديم قروض مالية لحكومة مادورو ــ تدخلت المحكمة الدستورية، فقررت انتزاع بعض الصلاحيات من البرلمان، لكن ذلك اصطدم بمعارضة جهات أخرى في السلطة القضائية الفنزويلية، حتى تلك المقرّبة من مادورو، وذلك لأسباب مبدئية.
تلك التطوّرات كانت كافية لمنح اليمين فرصة جديدة، للمضي قدماً في الهجوم على مادورو. وانطلاقاً من ذلك، عمد اليمين الفنزويلي الى تعطيل كل مساعي الحوار، التي تتم بوساطة من رئيس الدومينيكان ليونير فيرنانديز، ورئيس الوزراء الإسباني السابق خوسيه لويس زاباتيرو، ورئيس بنما السابق مارتين توريخوس، قبل أن يعطي الضوء الأخضر للنزول إلى الشارع، في تظاهرات شبه يومية، لم تخل من أعمال العنف، وتسببت بخسائر للاقتصاد الفنزويلي بعشرات مليارات البوليفارات. وبالرغم من أن الرأي العام الفنزويلي يفضل، بغالبية كبيرة، التوصل إلى تسوية سياسية، في مقابل قلّة تريد إسقاط الرئيس، حسبما تشير استطلاعات الرأي، إلا أن المعارضة اليمينية تسعى إلى رفع نسبة المعارضين لبقاء مادورو في الحكم، من خلال تصعيد الضغط عبر الشارع، مستفيدة من أمرين أساسيين، يتمثل أحدهما في تفاقم الأزمة المعيشية، التي باتت كابوساً يقضّ مضاجع كل مواطن فنزويلي، فيما يتمحور الثاني حول إجراءات «لا ديموقراطية» اتخذتها السلطات الفنزويلية، من خلال توقيف بعض كوادر المعارضة، ووضع البعض الآخر في ما يشبه الإقامة الجبرية.

تقترب الأزمة من أن
تكون حرباً فعلية تشنّها
واشنطن لإطاحة مادورو

وإذ تدرك المعارضة اليمينية أن هذين الأمرين قد لا يكونان كافيين لإحداث تغيير دراماتيكي في المشهد السياسي، وخصوصاً أن مادورو لا يزال يتمتع بشعبية كبرى في صفوف الفنزويليين ــ وجزء أساسي في ذلك يعود إلى إرث تشافيز ــ كان لا بد من تصعيد يحاكي بعضاً مما جرى في الدول العربية خلال السنوات الست الماضية.
على هذا الأساس، كان اللجوء إلى العنف في الشارع، الذي بدأت تسيل فيه الدماء، في مواجهات شبه يومية بين مناصري اليمين من جهة، وأجهزة الأمن ومناصري مادورو من جهة ثانية، والتي أسفرت حتى الآن عن مقتل 23 شخصاً، وإصابة المئات بجروح، فضلاً عن توقيف مئات آخرين.
ويبدو أن المعارضة اليمينية تطمح، من خلال هذا التصعيد الخطير، إلى تحقيق سيناريو مكرّر، وهو تأليب الرأي العام الداخلي، والمجتمع الدولي، ضد مادورو، أملاً بإسقاطه، إما عبر حركة انقلابية عسكرية، تلقى دعماً في الشارع، على غرار ما حدث بين 11 و13 نيسان عام 2012، في بدايات عهد تشافيز، أو حتى عبر «تدخل دولي» لمحت إليه وزارة الخارجية الأميركية في أحد بياناتها الأخيرة بشأن الأزمة الفنزويلية.
هكذا يجد مادورو نفسه أمام تحدّ مصيري، ربما يكون الأكبر في عصر «الثورة البوليفارية»، فالهجوم يبدو اليوم أكثر تنظيماً، وربما استخلص فيه اليمين الفنزويلي العبر من تجاربه الفاشلة في السابق، مضافاً إليها خلل كبير، يتبدى في بنية النظام الفنزويلي نفسه، ويتمحور حول أزمتين خطيرتين:
الأولى، تتمثل في انخفاض سقف التوقعات/ الأحلام بـ«اشتراكية القرن الحادي والعشرين»، حيث بات الفنزويليون يخوضون اليوم حرب البقاء على قيد الحياة، في ظل أسوأ أزمة معيشية تشهدها البلاد.
وأما الثانية، فمرتبطة بما كشفت عنه السنوات الماضية من عجز حكومي عن الإمساك بالاقتصاد، الذي لا تزال تنهشه الاحتكارات الرأسمالية من جهة، والفساد المستشري في أجهزة الحكم من جهة أخرى.
ولعلّ هاتين الأزمتين لا تبعثان على الطمأنينة إذا ما جرت مقارنة ما آلت إليه «اشتراكية» فنزويلا بتجارب اشتراكية عالمية أخرى، ارتفعت فيها بداية أحلام الفقراء والمهمشين بعالم جديد، لكنها سرعان ما انهارت على وقع «سوس» نخر تلك التجارب من داخلها، ومؤامرات حيكت ضدها من خارجها!




الدعوات إلى التظاهرات تتوالى

في سلسلة التظاهرات المتتالية، دعت المعارضة إلى تظاهرة جديدة أمس، للمطالبة بانتخابات عامة مبكرة قبل انتهاء ولاية مادورو في كانون الأول 2018. وبعدما اتهم المؤسسات الخاضعة لسيطرة الحكومة بأنها «متواطئة بالانقلاب»، دعا النائب عن المعارضة ميغيل بيزارو، الى مسيرة في اتجاه وسط كراكاس، لكن من دون تحديد خط سيرها.
على صعيد آخر، قال البنك المركزي لصندوق النقد الدولي، في آخر بياناته، إن التضخم السنوي في فنزويلا بلغ 274 في المئة العام الماضي، علماً بأنه لا أرقام حكومية بهذا الخصوص. وتذهب مؤسسات دولية إلى القول إنّ التضخم بلغ 525 في المئة.
(أ ف ب، رويترز)