لا يجد الرئيس الأسبق للجمهورية أمين الجميّل حرجاً في إعداد قهوة "الإسبرسو" لزواره، "بحسّ حالي مرتاح أكتر لمّا كون مستقلّ". في المقر الصيفي السابق لرئاسة الجمهورية في بكفيا، "يُداوم" الجميل لإدارة مؤسّسة "بيت المستقبل"، وهي "عودة إلى حبّي الأولّ". سلّم "أمانة" رئاسة حزب الكتائب إلى ابنه، النائب سامي. أما هو فأراد إعادة تنظيم مركز الدراسات المختص بقضايا الشرق الأوسط ومستقبل العالم العربي، بعد أن أسّسه عام 1975 انطلاقاً من فكرة "الحفاظ على سلامة وأمن المناطق التي تعرضت لانتهاكات بعض الفصائل الفلسطينية من جهة، ومن جهة أخرى بلورة أفكارٍ وطنية حتى لا نغرق في مستنقع الأزمة في حينه ومصالحة الأفرقاء في الوطن من أجل تأمين المستقبل"، يروي الجميّل. يبتسم وهو يستعيد في مخيلته "صورة أمين الجميّل المحارب على الأرض الذي خلق مؤسسة فكرية تميّزت بالاستقلالية وكانت القضية الفلسطينية من أهم المواضيع التي قاربناها، لأننا نُميّز بين جنوح بعض المنظمات الفلسطينية وبين قدسية هذه القضية العربية والمُحقة". تمكنت "المؤسسة" من أن "تكون في صدارة المراكز المماثلة في العالم العربي. بكلّ تواضع كان هناك روح أمين الجميل، وحين غادرت فُقدت هذه الروح". منشورات عدّة صدرت عن "بيت المستقبل"، ولكنه تحول في نهاية الثمانينيات "من مركز فكر إلى ثكنات عسكرية لمن حكم المنطقة الشرقية، فبات وكأن من يُسيطر عليه ينال السلطة". أيام قصر بعبدا، "كان باستطاعتي الحصول على المعلومات التي أريد بمجرد تصفّحي لبنك المعلومات". حالياً، "نعمل على إعادة تكوين هذا البنك وتطويره حتى نُقدم خدمات لا توفرها كل وسائل الاتصالات الحديثة".
يتنقل الجميّل بين مكاتب "المؤسسة"، مطّلعاً على أدق تفاصيل العمل: "لا يُنشر شيء من دون علمي". فبالنسبة إليه، "البلد الذي لا يملك جامعات ومراكز توثيق لا يستحق أن يعيش. هي التي توجه السياسات في العالم، ونحن نحاول أن نلعب هذا الدور".
منذ إعادة إطلاقه في أيار الماضي، عقد "بيت المستقبل" العديد من المحاضرات والندوات. ورغم عدم اهتمام الإعلام والرأي العام بها، الجميّل مُطمئن لأن "الانطلاقة كانت أسرع مما توقعنا". هل هي وظيفة تقاعد؟ يضحك: "هذا أهم إنجاز في حياتي".
حجارة القصر القديم الذي شُيّد عام 1846 وأبوابه الخشبية المُنخفضة وقناطر النوافذ التي تُطلّ على قمم صنين البيضاء وبيروت المزدحمة تبدو متجانسة مع طابع المنطقة الريفي التقليدي. ولكن أعمال الترميم التي شهدها، فرضت إدخال بعض مظاهر العمارة الحديثة عليه: ساحة القصر الداخليّة سُقفت بالألواح الزجاجية، والمصعد الخارجي زجاجي أيضاً. زهرة "الأوركيد" والورود البيضاء وصورتان لـ"الحبيب بيار"، هي زينة مكتب "الرئيس" البسيط. السكون الذي يُسيطر على بكفيا ينعكس على الجميّل. بهدوء يُخبر مساعدته على الهاتف: "الضيف وصل، وأعددنا القهوة"، ليبدأ بعدها الحديث السياسي. وفق المعلومات التي حصل عليها الجميّل، الرئيس سعد الحريري والنائب سليمان فرنجية لم يلتقيا مرّة ثانية، "موفدا الطرفين هما من التقيا". ينتقي كلماته بعناية وهو يؤكد أنّ "مبادرة الحريري الرئاسية جديّة وهو صادق بمقاربته". المفاجأة كانت "في رفض هذه المبادرة بهذه الحدّة". الكتائب على تواصل دائم مع الحريري، "وموقفنا من طرحه وطني يتجاوز الاعتبارات الأنانية، ولكن الكرة حالياً في ملعب قوى الثامن من آذار". حتى مع فرنجية "اللقاءات تُعقد باستمرار من أجل التفاهم حول الموقف الوطني وإيجاد قواسم مشتركة. الأجواء كانت إيجابية. أكيد أنه حين تُحلّ التعقيدات تُصبح وتيرة الاتصالات أسرع"، مع التشديد على "تحالفات الكتائب ومبادئها". طيب، ماذا يريد رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع؟ "بدّو يعمل رئيس"، يردّ الجميّل. ويوضح أنّ "الفرق بيننا وبين الآخرين هو في مشروعنا الوطني ونضالنا من أجل قضية وطنية، بينما معظمهم مشروعهم هو مشروع سلطة". يرفض الحديث عن ترشيح جعجع للنائب ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، "هناك الكثير من الصعوبات. لمّا بصير في ترشيح منحكي فيه". يرفض السؤال عن انسحابه من المعركة الرئاسية "أنا من الأسماء المطروحة، ولكن أنا لم أترشح ولا الكتائب رشّحني"، علماً بأن الوزير سجعان قزي صرّح في تشرين الثاني الماضي، لـ"السفير"، بأنّ "لدى الكتائب مرشحاً رئاسياً هو الرئيس أمين الجميّل".
في خضم كل هذه التطورات لم تنقطع علاقات الكتائب مع أي طرف، خاصة حزب الله الذي أعيد تفعيل قنوات التواصل معه. يقول الجميّل إن "هذه قناعتنا بأننا نعيش في الوطن نفسه. لا يُمكن بناء لبنان من دون هذه الشريحة التي يُمثلها حزب الله". إضافة الى أنّ "القطيعة بين مكونات أساسيّة تعني التقسيم، وهو ما نرفضه ونحاربه".
حزب الكتائب تمايز وابتعد عن قوى 14 آذار في محطات عديدة. لا يُنكر الجميّل ذلك، ولكنه في الوقت عينه يرفض نعي هذا الفريق. "هناك نمطان من العمل داخل 14 آذار"، يقول. النمط الأول هو السلطة وكيفية التعامل معها، "هنا ربما يكون هناك اختلافات كثيرة ونحن تمايزنا عنهم". أما النمط الثاني فهو "القيم والأسس الوطنية التي تتميز بها 14 آذار، وهي أقوى مما كانت، بسبب المخاطر التي نواجهها وتقتضي أن تبقى القيادات متعاونة".
تستريح كلمات الجميّل بين الفكرة والأخرى. يُفكر قبل أن يطرح مقاربته للوضع الإقليمي وانعكاسه على لبنان "هناك معطيات عدّة تؤكد أنه في الظرف الراهن من مصلحة الجميع إبقاء ساحتنا بمنأى عن التطورات الدراماتيكية في دول الجوار. هي استراحة المحارب". بيد أنّ ذلك قد لا يطول "إذا لم تلعب المؤسسات دورها من جديد، لأنه لا يُمكننا أن نتّكل فقط على حسن نية العالم". يُلخّص الجميّل الوضع بجملة: "إنّ غياب المؤسسات ومنع انتخاب رئيس يُشبه الانتحار".