على مدى ستّ سنوات، عاشت البحرين في غموض بفعل الأحداث التي كان يصعب توقّعها ورصد تبعاتها. لكن حصار الدراز الذي بدأ قبل نحو عام، كان أشدّ أحداث البلاد غموضاً منذ أن بدأت «ثورة اللؤلؤة» في ١٤ شباط/ فبراير ٢٠١١. كان الحصارُ يُحرِّك الحدثَ باتجاه احتمال كلِّ شيء، ونقيضه.
الشيخ عيسى أحمد قاسم (مواليد ١٩٤١)، عُرف في مراحل حياته المختلفة بذلك «الكوكتيل» العجيب من المآثر والخصال. ليس في هذا الغموض توارٍ عن ضعف، أو عجز عن الإمساك باللحظة المؤثرة، أو مجرّد رغبة في تصيُّد مكامن الإثارة. إنه طبع الرجل الذي يجمع صفتَي التواضع الجمّ والمُربك أحياناً، جنباً إلى جنب مع القدرة الساحرة والسريعة على قلب الموازين.
حفرَ الشيخ قاسم في بناء الدولة، وشاركَ في رسْم دستورها العقدي الأوّل بعد الاستقلال. ولكنّه لم ينفعل طويلاً في التعاطي السياسي المباشر، إذ كان شغفه أكثر في الدرس الديني وصناعة «الجيل الديني» الذي سيشهد على رعاية خاصة من الشيخ الذي وصفه الراحل السيد محمد حسين فضل الله بـ«فقيه الكلمة». تلك الرعاية ستجعل من جاذبيّة الشيخ أبي سامي ــ كما يُفضّل مريدوه أن يُكنّى ــ تنتقل إلى حدود التماس الاجتماعي. وبوفرة الإعجاب والولاء الذي تراكم في محاور عقد الثمانينيات، وعملَ جيلُ التسعينيات على وضْع قوالبها الخاصة بالتدريج، أخذت صيغتها المرجعية بعد عام ٢٠٠١.
في ذلك العام أضحى خطاب الشيخ «كلمة فصل»، وتحوّل مجلسه الخاص إلى «المختبر الأخير» لكل أفعال السياسة، وكثير من أقوالها. قوّض الشيخ كثيراً من تقاليد المنبر الديني، في أوّل الأمر. لكن بعد عودته إلى البلاد في عام ٢٠٠١، أعاد تطوير تلك التقاليد وأعاد الاعتبار لفعالية المنبر الديني مقابل البروزات الجديدة للأفكار الجديدة. أثار ذلك سجالاتٍ حادّة، وارتفعت سُحبٌ ملبّدة بين الأتباع، لا سيما مع تعدُّد شُرّاح الشيخ وكثرة «المجتهدين» في تفسير خطاباته. هو الغموضُ الذي زاولَ به الشيخ رعايته الأبويّة للجميع، ولكن من غير أن يبخل في فضّ الغموض ذاته حينما يتعلق الأمر بالدفاع عن الدين والعقيدة، حيث لا يعرف أن يبقى رماديّاً.
على الرغم من الوقع الساخن الذي أحدثه هذا الأداء، فإنّ مرجعية الشيخ قاسم ظلّت في صعود ورسوخ، وأعطى خطابه الإلهامَ والاعتبارَ العام لخياره المنهجي الذي انطبع بثلاث خواصّ متجادلة: التكثيف الديني، المسايرة السياسيّة، والحرص على التمايز الأيديولوجي، ولكنّ حتّى حين!
بعد «ثورة ١٤ فبراير»، أخذ الشيخ قاسم دوراً استثنائياً. كان هو المحور بلا مُنازع، ولكن من غير تمحور شخصانيّ، أو استعراضات لجذب الأضواء والإملاء على الأتباع. في هذه المرحلة، بدأ يُعالج غموضَه «الطبيعي» بوضوحٍ كامل في الانحياز إلى «الثورة» ومطالبها. أنتج منبر الجمعة الذي يرتقيه في «جامع الإمام الصادق» في الدراز معجماً لغوياً خاصّاً في إظهار المعارضة الصارمة للقمع الحكومي، واستنكار التعدّيات على الأرواح والمقدّسات والشعائر. وخرجَ الشيخ في أحيانٍ معيّنة على التأطير السميك الذي ظهر به أو عُرف به، وتركَ لغضبه العفويّ أن يهزّ أرجاءَ الجامع وساحات المعارضة.
عقب ذلك، بدأ النظامُ بتجميع مخطّط الهجوم على الشيخ، وتحوّل الرجل الذي قبّل ملكُ البحرين جبهته يوماً إلى هدف لأسوأ الأوصاف والاتهامات من وزراء «خليفيين». التحريض الذي بدأ منذ عام ٢٠١١، تحوّل نحو بناء قائمة الاتهامات التي ستتحوّل بدورها في حزيران/يونيو ٢٠١٦ إلى لائحةِ الدعوى المرفوعة ضد الشيخ.
استياءُ آل خليفة من الشيخ قاسم ليس بلا سبب، أو من فراغ. كان يتوقّع النظامُ أن يأخذ الشيخ موقعاً خاصاً يُشبه «دائرة المراوحة بين الغموض والوضوح»، والذي عُرف به الشيخ في كثير من المقاطع المؤثرة والحسّاسة التي مرّت على البلاد. إلا أن الشيخ ذهب بعيداً في مناصرةِ «الثورة»، وقدّم وضوحاً كاملاً في مشروعه السياسي والديني الموازي لمشروع النظام، وأفصحَ عن رؤاه المتطابقة مع المطالب السياسية للمعارضة. وسجّل الشيخ تثبيتاً لا هوادة فيه لمصلحة استقلاليّة المنبر الديني عن الهيمنة الرسمية، وهو ما أثار حفيظة العائلة الحاكمة.
هو لم يُعرَف عنه يوماً أنه تورّط في محاضن أو مرابع «الأمراء الشيوخ» ليكون مجبراً على ردّ الجميل، أو مفروضاً عليه أن يُقدِّم الولاء الأعمى تحت تأثير قوّة الابتزاز. لم يكن لديهم شيء ضده، ولم يكن لديه شيء منهم. ولذلك، ومع اكتظاظ سواد النظام وقُبحه، خطا الشيخُ خطوة في المفاصلة مع محيط النظام، ومنحَ الحراكَ الشعبي الخزان «الشرعي»، وليس الغطاء فحسب. كان ذلك متوازياً مع مضيّ النظام في مساعيه لقطع إمدادات المؤسسة الدينية عن الحراك المعارض، ولكن من غير فائدة، ما دفعَ بالنظام نحو التعجيل بالخطةِ، والذهابِ إلى المنبع الذي يضخّ الدعمَ والحماية للمعارضة، ويأبى أن يجلس على «موائد اللئام». وهكذا جاء الهجوم على الشيخ قاسم في حزيران/ يونيو الماضي، وإسقاط جنسيته، ضمن حزمة «الحرب المعلنة» التي تمدّدت إلى «جامع الإمام الصادق» ومنع «صلاة الجمعة»، وفرض الحصار العسكري على الدراز، وليس انتهاءً بالهجوم الدموي الذي شُنّ فجر أمس.
في غموضه، كما في غيابه وحضوره، يفتح الشيخُ قاسم على تفاصيلِ هذه الجزيرة كل الاحتمالات. انكسرت شوكة القوات المحتشدة أمام اعتصام الدراز، ولكنّها حاولت أكثر من مرّة التوغّل باتجاه المنزل. فعلتها هذه المرّة بقوّة الغطاء الأميركي وبالاقتداء بآل سعود. أغرقت القواتُ طرقاتِ البلدة بالدماء، ولكن الخطة لم تتضح بعد، والحلفاء السعوديون والأميركيون لا يزالون يديرون العربةَ التي تضمّ في سلّتها: «إلزام النظام بالتراجع، والاحتماء بالمربع الأول، وانتظار تسلّم أمر العمليات الجديد»، أو «الذهاب إلى نهاية الخطة وابتلاع سُمّ الانتحار الجماعي». هو إذن صراعٌ أُريد أن يكون مرجّحاً بين الإقدام والإحجام. فالمعركة ــ التي تبصّر لها الشيخُ قاسم ــ مرسومٌ لها أن «تستنزف كلَّ الاحتمالات، وتجمّدها في الوقت نفسه». وفي حال مثل هذه، فإن الطريق المثلى قلب الطاولة من أعلى، ومن الزاوية التي لا يتوقعها النظام، وداعموه من الخارج. ولكن ذلك، كما يعرف الشيخ قاسم المعروف بحسّه المرهف بشأن «الدماء»، محفوف بقائمةٍ من المخاطر والتحديات، وليس غير الشيخ منْ يُجيد ــ الآن وهو في وضع المصير الغامض والمجهول ــ حسابَ سلبياتها وإيجابياتها، وصناعةَ مدخلها الذي يُحدّد للبحرين بوابة الخروج من أنفاق آل خليفة. هو المعنيّ والقادر على ذلك، ولذلك جاءوا إليه، بكلّ قتلهم المريع، وإلى منزله المتواضع.