منذ سنوات ليست ببعيدة، كان لبنان كله يُملّح أطعمته وصناعاته الغذائية وغير الغذائية بملحه الممتاز الخشن أو المطحون. كان الانتاج السنوي خمسين الف طن يغطي حاجة الاسواق اللبنانية، منها خمسة وثلاثون الف طن تنتجها ملاحات أَنْفَا وراس الناطور في ساحل الكورة وحدها. هذه البلدة التي كانت وما زالت عاصمة المِلْح الطبيعي اللبناني.
أين الحماية؟

كان إنتاج الملح الوطني محمياً بفرض رسوم جمركية عالية على المِلْح المستورد. توسعت الملّاحات في أَنْفَا طولاً وعرضاً على الشواطئ العامة وعلى العقارات التي تجاورها. تمددت نحو التلال وبين الزيتون والأحراج حتى بلغت مساحتها مليون متر مربع في سهل السودات وراس الملاليح والرميلة والنافوخ على الواجهة البحرية الجنوبية للبلدة. كذلك تمددت الى راس أنفا وتحت الريح والشهدا والراس الصافي في خليج أنفا وراس الغرُوبية والنهيرة وراس الناطور والحريشة والخرائب وتلة مار انطونيوس... وقد بلغ بعد بعض الملّاحات عن البحر من ٥٠٠ متر الى ألف متر.

صناعة نظيفة

يتم سحب ماء البحر الى الملاحات البعيدة بقساطل ومحركات كهربائية أو على المازوت. أما الملاحات القريبة من البحر على الشواطئ الصخرية فكانت المضخات الهوائية - دواليب الهواء - تنتشر على طول شواطئ أَنْفَا شمالاً وجنوباً يحركها الهواء لضخ ماء البحر الى الملّاحات.
ازدهر إنتاج المِلْح ايضاً في ملاحات سلعاتا جنوبي جبل الشقعة ناحية البترون، ثم توقفت هذه الملّاحات تحت ضغط التلوث الناتج من شركة الكيماويات القائمة على الشاطئ البتروني. وازدهرت بلدة القلمون بإنتاج المِلْح في ملاحاتها على طول واجهتها البحرية وفيها معمل لتكرير المِلْح.
كذلك بلدة كفرعبيدا البترونية وجزيرة الارانب أو النخيل كان فيها ملّاحة ودولاب هواء.
وفي عكار ملّاحة كبيرة في بلدة الشيخ زناد وفِي الجنوب اشتهرت عدلون منذ القديم بملاحاتها الصخرية.
وفِي بلدة العقيبة بين جبيل وجونية، عرف البحر ملّاحة واحدة اشتهرت بها المنطقة.

مشاريع سياحية تعطيلية

مع كثرة الملّاحات وازدهار الانتاج وكفايته للسوق اللبنانية، وحمايته من مضاربة المِلْح المستور... مئات العائلات كانت تعيش من رزق الملّاحات. فأين أصبح كل ذلك اليوم؟
دام عز المِلْح والملاحات من 1955 الى 1975. عشرون سنة من الانتاج والبحبوحة والازدهار ضربتها الحرب بتعطيلها كل روافد الاقتصاد اللبناني وفروع الانتاج، ومنها الملّاحات.
بعد الحرب الاهلية، ابتُليت الشواطئ اللبنانية بظاهرة المشاريع البحرية الترفيهية باسم «المنتجعات السياحية». وبدأت حرب ثانية على الكيان اللبناني تعطيلاً وتهجيراً، عدا الخراب البيئي وتغيير العيش العمراني الاجتماعي الاقتصادي والنسيج التراثي والسكاني الأصيل. وبدأت عاصفة تدهور الاقتصاد اللبناني من سياسة العمل و الانتاج الى سياسة الاستيراد والاستهلاك. كان لهذه السياسة الانتحارية ضربة موجعة للعاملين في الموارد البحرية. الملّاحات والموانئ الصغيرة وصيد الاسماك.
مع تطور الفساد الاداري وتغليب المصالح الخاصة على المصالح العامة، تضخمت ثروات أمراء السلطنة اللبنانية، وفرزت إقطاعية جديدة، وتوسعت الاطماع بالشواطئ لتكون باباً عالياً واسعاً للإثراء السريع وغير المشروع. وهنا بدأت المؤامرة على ملاحات أنفا، لأنها الوحيدة التي ما زالت صامدة، تعرقل مشاريعهم الاستثمارية الكبيرة. شنّوا هجومهم العشوائي الشرس عبر ادّعائهم أن الملّاحات هي بمثابة «تعديات على الاملاك البحرية العامة»، وأصدروا قراراً بتجميد حقوق الاستثمار ودفع الرسوم الى وزارة المالية. ثم سمحوا بالاستيراد من مصر دون قيد أو شرط لضرب الانتاج الوطني وتهجير الملاحين من ملاحاتهم. وأخيراً زعموا أن مِلْحٍ أَنْفَا ملوث وخال من اليود والفليور، تلك الاضافات - البدعة التي تم تسويقها لأهداف التجارية! وكانوا ا دائماً يأمرون الأجهزة الأمنية بعرقلة مواسم المِلْح والاصلاحات الموسمية البسيطة لتنظيف وتأهيل الملّاحات للإنتاج.
أمام هذا الهجوم العدواني الاستبدادي على الملّاحات وأصحابها... بدأت «ثورة المِلْح» لتفنيد مزاعمهم والدفاع عن مِلْحٍ لبنان وملّاحاته والملّاحين العاملين فيها.