في روايته «الأعتاب» (دار الساقي) يقص الكاتب العماني محمد قراطاس سيرة للارتحال من أجل علاج النفس ومعرفتها. يعرف المرء الله، يسم هذا المبدأ الصوفي الأعتاب بسمتهِ، وتشكل الزيارات النورانيّة فن الحكاية الأكثر ألقاً. يعرض قراطاس مرحلة مجهولة من تاريخ عُمان، وهي الثورة الشيوعية في ظفار جنوب السلطنة، ويجعل خيارات مستهيل العفار إشارة إلى الحال التي آلت إليها تلك الثورة متى ما صار الموت يزرع البهجة، والسلام يدعو إلى الكآبة. في تلك المرحلة من الثورة، يتخلى مستهيل عن السلاح ويعود إلى أهله في صلالة، ويشرع في رحلة لمعرفة أصولهِ. وقد كانت سخرية الأولاد منه، كون والده مجهول النسب، سبباً من أسباب التحاقه بالثورة، حيث تسقط الألقاب والأنساب. لكن، لم يكن في حساب مستهيل أنّ للثوار أعرافهم كذلك. الأعراف التي تعيده إلى أهلهِ، وهو «يحمل روحاً ميتة». تشكل عودة الشاب الثائر إلى أهلهِ، فاقد الإيمان بالثورة، بعد أربع سنوات من القتال الشرس ضد الحكومة، لغزاً يحار أهل الحي في تفسيرهِ.

يبيع حصته من المزرعة ليوزعها على المحتاجين، ويعيده سخطه على الثورة الشيوعية إلى المسجد، وتساؤلاته وهو في طريق لا يفضي إلا إلى الموت عن «الطريق الحقيقي إلى الحرية والخلاص؟!».
لم ينه المسجد «القلق الوجودي» لدى مستهيل، إذ لم يدخله مقتنعاً وإنّما دخله في ردة فعل. ولذلك يقرر حلّ لغز والده الذي وُجِد على الشاطئ، والرحيل عن صلالة للبحث عن أرض أبيهِ وجده أبو بكر التويجاني. ينطلق في رحلتهِ؛ زاده الشوق والحب، يتبع الأسباب التي يزرعها الله في دربهِ، يسير في الأرض من دون حذر ولا دليل سوى الزيارات النورانيّة لأحباب جده، والتي لم تنقطع منذ مغادرته صلالة، ناظراً إلى الأرواح ومهتدياً بنزعة صوفيّة ترى في الطريق إلى السلام اقتراباً من السلام. يساعد مستهيل قائد القافلة التي تقله إلى مسقط، يشفي ابنه من الموت وقافلته من الهلاك.

يعرض مرحلة مجهولة من تاريخ عُمان، وهي الثورة الشيوعية في ظفار


يدله قائد القافلة على أحد أصحابهِ في السوق، وهو الحاج باقر الذي هدر حياته في شؤون المال، ليبصر جدوى الحياة على يد مستهيل الذي يطمئنه الى أنّ الاستمرار بعمل الخير هو الطريق إلى الله. يرشده الحاج إلى قبطان إنكليزي على متن باخرة فرنسية، لتبدأ رحلة مستهيل من مسقط إلى فرنسا، مروراً بمقديشو، حيث يخرج القبطان من ورطة في ميناء مقديشو، ويحثّ كريشنا الهندي على البقاء على متن السفينة، بعدما كان يغادرها إلى الماء، إذ بات يرى استمرار حياته الفاشلة هو «الجبن». مثلما كانت الزيارات النورانيّة تجلو التعب عن روح مستهيل، كذلك كان وجوده بالنسبة إلى رفاقهِ، باستثناء القبطان الذي راح يرى في وجوده نذير شؤم، فرمى جواز السفر الخاص بمستهيل في البحر ومنعه من النزول في الموانئ حتى وصوله إلى فرنسا واحتجازه في مركز توقيف، قبل أن يتوسط له للعمل في الشركة. في باريس، يشهد مستهيل الفتنة الأولى حيث يعيش معركة بين حب علوي يسكنه منذ أن غادر صلالة، وحب لباريس. وفي مرسيليا، يقع على الفتنة الثانية وهي عليا ابنة العم إسحق صاحب سكنهِ، وهنالك تشهد الحكاية أكثر فصولها دراميّة، إذ يتدخل مستهيل في المشكلات التي تقع فيها عائلة العم إسحق بما يملكه من معرفةٍ نورانيّة تغيب عن الناس العاديين. يتنقل من مقر الشركة إلى حمال في الميناء إلى مراقب للعمال، قبل أن يترك كل هذا ويتبع الأسباب التي تقوده إلى مقام أحد أجدادهِ، وقد كان مجاهداً مع عبد الرحمن الغافقي. يعيده ذلك إلى الجهة الأخرى من البحر، إلى أطراف جبل مرّة في دارفور. يكشف المؤلف لغز أصول مستهيل ولغز تركه للسلاح. وفي نهاية الطريق، تبدأ رحلة مستهيل الحقيقية، إذ لم يعد ثمة ما هو خافٍ عليهِ بما يتعلق بأصولهِ، ولم تكن الرحلة المضنية إلى الجد وإنّما إلى مستهيل نفسه.
يتعاطى الكاتب مع ثورة ظفار ضمن مفهوم أشمل للثورات، فهو لا يبني على خصوصية تلك الثورة بقدر ما يتحدث عن أخطاء الثورات التي ما لبثت تتكرر في كل الأزمان. يسود الرواية جو من السماحة إزاء الأديان المختلفة؛ يظهر في تعاطي مستهيل مع القس في الكنيسة ومع العائلة اليهودية. يعود ذلك إلى اقتناع الشيوعي بمعاناة الإنسان من الأديان، وكيف تستخدمها الحكومات لتضليل المسحوقين عن حقوقهم. يتنازع الأعتاب صراع عذب بين الله والحقيقة يظهر في العديد من الحوارات، إذ يشكل الله نهاية كل أيديولوجيا. تتلخص المسألة في حوار مستهيل مع أحد الملحدين: «أنا أشفق عليك فأنت تعيش وهماً كبيراً اسمه الرب/ وأنا أشفق عليك أكثر لأنّك تعيش وهماً كبيراً اسمه الحقيقة». كأن الحب هو زاد مستهيل الذي لا ينضب. في حوار آخر، يلخص فلسفته في وجه الصعاب: «ما هو سر كل هذا الهدوء وأنت على شفا السجن والطرد؟ / ربما الحب يا صديقي... املأ قلبك منه حيث تجده»!