«كأني بالحدباء مذ بك شرفت *** قد اعتدلت قداً ودقت خصورها»؛ بيت الشعر هذا الذي يُقال إنّ شاعراً موصلياً استقبل به الملك فيصل حين زار المدينة في بداية العشرينيات، لا يمكن لأهالي عاصمة الشمال العراقي أن يستقبلوا به القوات التي تعمل على استعادة الأحياء الأخيرة من هذه المدينة في هذه الأيام. فالحدباء (إحدى التسميات التي تطلق على الموصل، والأرجح لاحتداب نهر دجلة فيها، وليس بسبب مئذنتها الحدباء التي دُمِّرت قبل أيام)، تبدو بعد ثلاثة أعوام من «احتلال داعش»، مثقلة بمآسيها، وخاصة بعدما شهدت تفاعل ثلاث «لعنات» في زمن واحد.
في كتاب «ولاية الموصل العثمانية في القرن السادس عشر»، يُصيبُ الباحث العراقي علي شاكر علي، حين يقول في بداية بحثه إنّه لا يمكن إغفال أهمية الموقع الجغرافي لمدينة الموصل، إذ إنه «منح المدينة مزايا استراتيجية أزلية، أدركتها كل سلطة راغبة في التوسع الإقليمي، (لأنّ) من يسيطر على مسالكها العمودية (البرية والنهرية) والأفقية، يتفوق على خصمه في أمرين: أولهما أنه يشلّ أطماع الخصم ونياته، والثاني أنه يتخذ من المنطقة قاعدة عسكرية لمدّ نفوذه في الأقاليم المجاورة». ويشرح أنّ هذا الموقع يساعد على «فهم الدور الكبير الذي نهضت به القوى السياسية الحاكمة... (وهو موقع) جعلها سوقاً طبيعياً لتبادل المنتجات... وجعلها المنفذ المهم للوصول إلى الأناضول، وكذلك إلى حلب وموانئ البحر المتوسط».
«لعنة الجغرافيا» التي جعلت الموصليين يدفعون أثماناً على مرّ العهود، أعادت في العامين الماضيين الكشف عن أطماع الجمهورية التركية بالمدينة ومحيطها، وهي أطماع لم تمت منذ تثبيت الحدود في منتصف عشرينيات القرن الماضي (وهي أيضاً، أطماع تمتد في المخيال التركي إلى حلب ــ نظيرة الموصل في الشمال السوري ــ، ولواء الإسكندرون المسلوب غرباً، وإلى مدينة السليمانية شرقاً).
هذه «اللعنة»، رافقتها أخرى حديثاً، وهي «لعنة عراق ما بعد الغزو»، وخاصة بعدما اعتقد الغزاة بأنّه يمكن لسلطة تُكوّنها العصبيات الطائفية احتضان فسيفساء الجغرافيا العراقية، بما احتوت من تعدد ديني وثقافي، وخاصة فسيفساء الموصل ومحافظتها نينوى، وذلك برغم أنّ الموصل ساهمت في العشرينيات، في زمن الصراع الحدودي مع الجمهورية التركية حديثة العهد في حينه، في «تشكيل هوية وطنية عراقية... (حين كانت توصف من قبل) الشعراء الوطنيين في بغداد والبصرة، بأنّها جوهرة العراق... ورأس جسد الدولة العراقية»، وفق ما توضحه في بحثها، المؤرخة سارة بيرسلي.
وربما أنّ واقع الموصل السياسي منذ 2003، هو ما شكّل أحد العوامل الرئيسة لظهور لعنة ثالثة، وهي «لعنة صدّام»، الذي سوف يعود من خلال «البعثيين السابقين» والذين يُعتقد حتى اليوم بأنهم شكلّوا نواة «التمرّد» الأولى في المدينة في صيف 2014.
بهذه الخلفية، وبعد الدمار الذي ألحقه «داعش» وغيره، بالمدينة وبمخزونها التاريخي، تقف الموصل على باب العودة إلى الدولة العراقية. إلا أنّ واقع المدينة، يبدو اليوم تائهاً بين زمنين: ماضٍ يوغل في القدم، غني بأمجادٍ تتقادمُ، ومستقبلٌ، سياسيٌ، مفتوح على المجهول. وأمام هذا الأفق، تبدو المدينة على صورة الدولة العراقية، لكن بشكل أكثر تعقيداً نظراً إلى كثرة الأطماع فيها، وإلى سعي بعض أبناء محافظتها، نينوى، إلى جعلها عاصمة لإقليم جديد يُحاكي إقليم كردستان على الجهة الأخرى من الشمال العراقي.
ربما وحده المؤرخ الموصلّي، يلقي نظرة ثاقبة إلى ماضي مدينته في هذه الأيام البائسة. وهذا ما يفعله إبراهيم العلاف، الذي تكثر كتاباته عن «أيام الموصل» التي عرفها قبل عقود، وعما كان قد بقي من قصورها، أو عن «أيام الزمن الجميل» الذي شهد في بداية الخمسينيات عرض مسرحية «المروءة المقنعة» للمصري محمود غنيم، أو عن زمن الاصطياف الموصلي في منطقة حمام العليل، أو حتى عن المعماري الموصلي (المسيحي) عبودي طنبورجي، الذي رمم «حدباء» المسجد النوري عام 1939... يفعل ذلك، وهو يردد: «إنّ الموصل ليست مدينة فحسب... إنها حضارة وتاريخ وموقف».
ليس غريباً أن تكون مدينة في دولة ما، أكبر برمزيتها من الدولة نفسها. ربما هذه هي حال الموصل اليوم، بصورة أو بأخرى. لكن على أبواب «عودة المدينة»، لا بد من التذكير بأنّه في مثل هذه الأيام من عام 1885 (25 حزيران)، عرفت بلاد الرافدين ثانية صحفها التي صدرت باسم مدينتها، «الموصل» (كما يروي الأكاديمي العراقي الراحل خالد حبيب الراوي)... فيما يردد ابن الموصل لمدينته اليوم، كلمات أغنية تراثية، تقول: «خافي من رب السما... وحدي لاتخليني».