القرآن هو الوثيقة الأشد موثوقية عن نهايات العصر الجاهلي. فقد شهد هذا العصر وأقفله معاً. بالتالي، فشهادته عن ديانة هذا العصر هي الشهادة المركزية التي نملكها. ولعلّ الشهادة التي تقدمها الآية 35 من سورة الأنفال، تقدّم لنا أهم مفتاح من مفاتيح هذه الديانة. غير الباحثين أهملوا هذه الآية، ولم يروا فيها ما يستحق التأمّل والبحث.
والآية تصف لنا بكلمات مختصرة إلى أبعد حد صلاة الجاهلية. وقد كان هذا الاختصار الموحش في ما يبدو السبب في عزوف الباحثين عن هذه الآية: «وما كان صلاتهم عند البيت إلا مُكَاء وتَصدِية» (الأنفال: 35).
والمشكلة تكمن في فهم المعنى الدقيق للمُكَاء والتَّصْدِية. المصادر الكلاسيكية العربية تخبرنا أن المُكَاء هو الصفير، وأن التصدية هي التصفيق. بذا فصلاة القوم كانت صفيرا بأفواههم وتصفيقا بأيديهم. وقد بدت هذه صلاة خرقاء، ولا معنى لها، عند الكثيرين: «لم يكونوا يصلون، ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة» (القرطبي، التفسير). وكما نرى فصلاتهم ليست صلاة، بل نفي للصلاة. لكن أحداً لا يقول لنا بوضوح كافٍ لِمَ كانت الجاهلية تصفر وتصفّق؟ وما معنى ذلك؟ إنهم يصفرون ويصفقون فقط. أي أنهم يصلون صلاة لها نفع لها.
فكيف يمكن لنا أن نعبر إلى صلاتهم، وأن ندرك معناها؟ يبدو أن خبراً أورده لنا ياقوت ربما يكون مدخلنا إلى معرفة معنى هذه الصلاة. والخبر عن ابن القطاقي، وقد أتى في سياق البحث عن معنى اسم مدينة مكة: «قال الشرقي بن القطاقي: إنما سميت مكة لأن العرب في الجاهلية كانت تقول لا يتم حجنا حتى نأتي مكان الكعبة فنمكّ فيه، أي نصفر صفير [طائر] المكّاء حول الكعبة، وكانوا يصفرون ويصفقون بأيديهم إذا طافوا بها. والمكّاء بتشديد الكاف طائر يأوي الرياض». ثم يضيف بعض سطرين أو أكثر: «... فكأنهم يحكون صوت المكّاء» (الحموي، معجم البلدان). أي كأنهم يقلدون في صلاتهم صوت طائر المكاء. ويردّد الشوكاني هذا الرأي أيضاً: «قيل المُكَاء: هو الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المُكّاء» (الشوكاني، فتح القدير). لكن المؤسف أن ياقوت لم يخبرنا عن رأي ابن القطاقي في التصدية. لكن يبدو أن أمر التصدية كان أعوص عليه من أمر المكاء.
على كل حال، فقد تبيّن لنا أن الجاهليين لم يكونوا يصفرون أيّ صفير يريدونه في صلاتهم، بل كانوا يطلقون صفيراً يقلّدون فيه صفير الطائر المكاء. وهذه نقطة مهمة يمكن البناء عليها. والمكّاء طائر صحراوي، وشبه صحراوي، معروف. ويسمى عند الباحثين أحياناً باسم القبرة الهدهدية. وصوته يشبه صوت المزمار، لكنه يصعد وينخفض على موجات. والأمر المهم في الخبر أن الجاهلية كانت ترى في المكو طقساً من طقوس الحج، وأن حجها لا يكتمل إلا إذا حاكت صفير هذا الطائر وقلدته. ويبدو أن طقس المكاء كان يجري على الصفا بشكل محدد. هذا ما نفهمه من خبر عند الدميري: «قال ابن عطية...: ورأيت عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من حراء، وبينهما أربعة أميال» (الدميري، حياة الحيوان). إذن، فقد كان المكيون يطلقون صوت طائر المكاء من على تلة الصفا.

ما زال الفلاحون السوريون
يحدثونك عن طائر «السكران» الذي يظهر وقت نضوج الرمان والعنب


وقد أغرم الشعر العربي بطائر المكاء. ومن خلال الشعر علمنا أن هذا الطائر على علاقة ما بالخمرة. يقول امرؤ القيس في معلقته:
كـأن مكاكيّ الجـواء غُديّـة
نشاوى تساقوا بالرَّياح المفلفل
المكاكي هنا جمع مكاء. أما الرَّياح، بفتح الراء وتشديدها، فهي الخمرة. عليه، فطيور تغرد مبتهجة في الغدية كأنها جماعة أسكرتها الخمرة. وهذا معلومة مهمة ستفيدنا لاحقاً.

التصدية

حسن جداً، المُكَاء الذي رأيناه في الأنفال 35 هو صوت طائر المكّاء الخمري. لكن ماذا بشأن التصدية؟
الأمر هنا أشد صعوبة. فلا أحد مدّ لنا فيه خيطاً كالذي مدّه ابن القطاقي. والكل مُجمع على أن التصدية هي التصفيق. لكن لا أحد يوضح لنا لِمَ كان الجاهليون يصفّقون في صلاتهم. بالتالي، لن يكون أمامنا إلا وضع الافتراض التالي: إذا كانت الجاهلية في مكوها تقلّد صوت طائر يُدعى المكاء، أليس منطقياً أن نفترض أنها كانت تقلد صوت كائن آخر في تصديتها؟
نحن نعتقد أن المنطقي أن يكون الأمر كذلك. لكن لا معلومات لدينا عن هذا الكائن المُفترض. لذا سنعمد إلى تقديم افتراض بشأنه: إنه الحية. أي أن التصدية الجاهلية كانت تقليداً لصوت الحية. ومعنى التصدية في الأصل هو ترجيع الصوت، أي ردّ صوت على صوت أصلي: «التصدية من الصدى، وهو الصوت» (الزبيدي، تاج العروس). ونقل الأزهري: «التصدية من الصدى، وهو الصوت الذي يرده عليك الجبل» (الزهري، تهذيب اللغة). ويبدو لنا أن الصوت الأصلي هو صوت طائر المكاء. بذا نفترض أن التصدية، التي هي صوت الحية، كانت ردّا ما على هذا الصوت الأصلي، أي أنها صدى لهذا الصوت. من أجل هذا سميت الحيات بالمتصديات في العربية:
من المتصدّيات بغيـر سوء تسيل إذا مشت مشي الحباب
المتصدّيات هن الحيات كما يخبرنا اللسان في تعليقه على البيت: «يعني الحية» (لسان العرب). والحية الواحدة المتصدية. وهذا ما يتوافق بقوة مع (التصدية) في الآية. بل إن الحية في اللغة هي الصدى أيضاً. فلدينا التعبير (صَمِّي ابن الجبل). وابنة الجبل هي: الصدى والحية معاً: «من أمثالهم: صَمِّي صَمَامِ، وَصَمِّي ابْنَةَ الجبل، وهي الحيَّة» (الجاحظ، الحيوان). يضيف الزمخشري: «ابنة الجبل: ومعناه الصدى يجيب المتكلم بين الجبال... ويقال: إن ابنة الجبل الحية أيضاً» (الزمخشري، ثمار القلوب). ويبدو أن أصل هذا الاشتباك بين الصدى والحية راجع إلى أن القدماء اعتقدوا أن صوت الحية الفحيحي صوت ترجيع وتصدية.
حسن جداً، لكن إذا كان طقس المكاء يجري على الصفا، فإن من المفترض منطقياً أن يجري طقس التصدية على التلة المقابلة، تلة المروة. المكاء على الصفا، والتصدية على المروة. بذا فالمكاء والتصدية كانا طقسين من طقوس السعي الجاهلي بين الصفا والمروة، في ما يبدو. طقس المكاء مرتبط بطائر، وطقس التصدية مرتبط بحية.
ومن المهم التأكيد هنا أننا نتحدث عن السعي الجاهلي، لا عن السعي في الإسلامي، الذي وضع في سياق مختلف.

الساقي والمطعم

لكن، لِمَ كانت الجاهلية تطلق على الصفا والمروة أصواتاً تقلّد فيها صوت المكاء وصوت الحية؟ ما معنى هذا؟ فسؤالنا هنا هو سؤال حول المعنى أساساً. كل خطوة من خطواتنا يقودها سؤال المعنى. لا أحد أخبرنا بذلك في المصادر العربية القديمة. فأقصى ما توصلوا إليه هو أن المكو تقليد لصوت المكاء. كما أنه لا أحد عرض لهذا من الباحثين الحديثين. فالآية لم تُثر اهتمامهم بالمطلق، نكاد نقول. أما نحن فملزمون أن نقدم اقتراحاً. ملزمون أن نحاول التقدم. وما بين أيدينا هو أن طائر المكاء يبدو طائراً خمرياً. وبما أن هذا الطائر مرتبط بتلة الصفا، حيث يُطلق من هناك صفير مشابه لصفيره، فمن المحتمل، إذن، أن يكون جبل الصفا مرتبطاً عند الجاهلية بالخمرة بشكل ما. لكن كيف لنا أن نثبت هذا؟
هذا السؤال سيقودنا إلى نصّ ثان نعتبره مفتاحاً أساسياً من مفاتيح فهمنا لديانة العرب قبل الإسلام. وهو نص قصير جداً أيضاً، أتانا من تاريخ اليعقوبي: «ونصبوا على الصفا صنماً يقال له: مجاور الريح، وعلى المروة صنماً يقال له: مطعم الطير» (تاريخ اليعقوبي). إذن، فلدينا صنمان اثنان، واحد على الصفا، واسمه «مجاور الريح»، والثاني على المروة، واسمه «مطعم الطير». فهل يكون الصنمان على علاقة ما بالمكاء والتصدية؟ ربما. وعلينا أن نستطلع هذا الاحتمال.
ولا خلاف على ضبط اسم «مطعم الطير» في المصادر العربية. لكن الخلاف يدور حول «مجاور الريح». فهو أحياناً (مجاور الريح، أو الرياح) أو (مجاود الريح، او الرياح). وفي الحقيقة فإن الكلمة الأولى سواء كانت بالراء (مجاور)، أو بالدال (مجاود)، كلمة غامضة جداً. فماذا يعني أن يكون هناك شيء مجاوراً للريح أو للرياح؟ وما معنى أن يكون مجاوداً لها إن كانت الكلمة مجاود؟ هل ينافسها في الجود مثلاً؟ هذا يبدو بلا معنى.
إذن، يتبقى لنا أن نحاول مع كلمة «الرياح» أو «الريح» علّنا نصل إلى شيء. ونفترض أن الأولى جمع وأن الثانية مفرد، أياً كان معناها. وكنا قد أوردنا من قبل بيت معلقة امرئ القيس الذي يقول:
كـأن مكاكيّ الجـواء غُديّـة
نشاوى تساقوا بالرَّياح المفلفل
ورأينا كيف أن «الرَّياح»، بفتح الراء، في هذا البيت هي الخمرة. بذا فمن المحتمل أن الرياح في اسم الصنم (مجاور الرياح) تعني الخمرة أيضاً. وإن صح هذا يكون الصنم خمرياً بشكل ما. وبذا تنعقد صلة ما بينه وبين طائر المكاء الخمري، الذي كان صفيره يطلق من على الصفا.
لكن هذا يقتضي أن نجد حلاً لكلمة «مجاور، مجاود». فكيف يكون اسم الصنم «مجاور الخمرة»؟ هذا لا معنى له. ونحن نبحث عن المعنى أساساً. وليس بين أيدينا من حلّ سوى افتراض أن تصحيفاً أصاب الكلمة، وأنها في الأصل بالزاي لا بالراء. أي أننا مع «مجاوز» لا «مجاور». وهذا يعني أن الاسم هو: «مجاوز الريح» أو: «مجاوز الرياح»، أي «ساقي الخمرة». ذلك أن جذر «جوز» العربي يعطي معنى السقاية: «جَوَّز إِبلَه: سقاها. والجَوْزَة :السَّقْية الواحدة... وفي المثل: لكل جابِهٍ جَوْزَةٌ ثم يُؤَذَّنُ، أَي: لكل مُسْتَسْقٍ وَرَدَ علينا سَقْيَةٌ ثم يُمْنَعُ من الماء... ابن السكيت: الجَواز السَّقْي. يقال: أَجِيزُونا، والمُسْتَجِيز: المُسْتَسْقي» (لسان العرب). ومن هذا اسم «برج الجوزاء» بالعربية، في الظن. أي أن اسمه يعني: الساقية. والجوزاء بالفعل على علاقة بالماء السفلي.
إذا صح افتراضنا، فلدينا صنم يدعى «ساقي الخمرة»، وصنم آخر يدعى «مطعم الطير». فماذا يعني هذا؟ أيعني أننا مع السقاية والرفادة الجاهلية؟
هذا ما سنجيب عليه في مادة تالية. وحتى ذلك الوقت ربما علينا أن نقول أن أسطورة المكاء الخمري ما زالت حية حتى الآن في الساحل السوري. فما زال الفلاحون السوريون يحدثونك عن طائر يدعى «السكران»، ويزعمون أنه يظهر وقت نضوج الرمان والعنب، فيأخذ رمانة ناضجة فيفرغها من بذورها العقيقية الحمراء. ثم يطير إلى أشجار الكرمة، ويأخذ الحبات الناضجة ويضعها في الرمانة المفرغة. وحين تمتلئ بالعنب الناضج يقفلها بالطين، ويتركها لفترة. وحين يتخمر العنب ويصير نبيذاً، يأتي «السكران» ليفتح بمنقاره الرمانة، ويغمسه في النبيذ المحيي شارباً، ثم يطير إلى السماء، ويحلق منتشياً سكراناً، مثل مكاكي امرئ القيس تماماً. وليس لدي شك أن «السكران» السوري شبيه المكاء، وأنه يكرر أسطورته. إنه حفيد المكاء المكي بشكل ما.
* شاعر فلسطيني