تمدّ المدينة لسانها الكلبيّ في وجهك. يخيَّل إليكَ أنَّ جماداتها أكثر شماتةً بك من ناسها. «ها قد عدتَ أخيراً أيّها الغريب، طريداً هناك، منبوذاً هنا» تهمس الأرض.«عندن» لا كهرباء تنقطع ــ كنتَ تقول ــ «عندن» لا فساد ولا محسوبية، «عندن» لا زحمة، «عندن» لا أزمة نفايات.
تتذكر كيف دفعت صدرك إلى الأمام قليلاً، و حدجت صديقك الذي قطعت الحرب الأهلية يمناه بنظرة استعلاء وقلت: «عندن» لا حواجز«طيَّارة» ولا قتل على الهويَّة! أيَّة لعنة حملتهم إذاً على طردكَ من صحرائهم غير لعنة الهويَّة؟

تنتبه فجأة في غمرة أفكارك إلى أنَّ قدميك تدقان وجه الأرض بعنف، تتذكر أنَّها ستحتضن رفاتك بعد وقت يقصر أو يطول، وأنَّها ستحاسبك مرتين: مرَّة لأنك غادرتها دون وداع، ومرَّة لأنك تطأ وجهها بقسوة.
تخفف من وطأتك، لكن الأرض لا تخفف وطأها. هذه رائحة التراب بعد الشتوة الأولى تنبعث من مكان ما. رائحة المطر هناك تختلف، لا تحتمل كل هذه «النوستالجيا». اللعنة على هنا وهناك إذاً، على«عندن» وعلى«عنده»!
عشرون عاماً مرَّت سريعاً، عشرون عاماً مرَّت ببطء. كأنَّها دهر ولحظة في آن. تؤلمك الأشياء التي تغيَّرت لأنَّها لم تحتفظ بصورتها التي تركتها عليها، ليس هذا من الوفاء في شيء! لكن الذنب ذنبك حين لم تقل إنَّك عائد. تؤلمك أكثر الأشياء التي بقيت على حالها، هذه تشعل نار الحنين فيك أكثر.
«بحبّك يا مجنون» كتبَ عاشق ما في زمن ما، على الجدار مقابل بيتكم. لم يأتِ عاقل ليمحو العبارة طوال عشرين عاماً. لعلكَ كنتَ فعلتَها أنت لو لم تهاجر باكراً! هنا، على هذا المقعد، أقسمت بثينة أنها لن تبدّل دعاءها القصير الذي تهمس به في أذن ربّها كلّ ليلة حين يمر طيفك في خاطرها قبل أن تنام: «لا تحرمني من». وفي اليوم التالي ذهب حبّكما ضحيّة لوشاية كاذبة من إحداهن! وتحت هذه الشجرة عاهدتَ صديقك محمد مازحاً أن تموت قبله كي لا تُفجع به، وبعد أسبوع كنتَ تهتف بأعلى صوتكَ رافعاً قبضتك إلى السماء في وداع مقاوم مجهول ظننت أنَّكَ كنتَ تعرف عنه كل شيء، وتعاهده على إكمال المسيرة... ولا تفعل!
زياراتك إلى البلد لم تنقطع في السنوات الماضية، لكن الوقت العجول لم يسمح لك بزيارة قصيرة إلى مسقط رأسك. كانت لديك دائماً مواعيد مع ضيوف من «هنا» ينتظرونك في فنادق «وسط البلد» لتجمعهم بحسناوات من«قاع البلد»!
كل هذا لم يشفع لك عندهم، لم يتركوا لك وقتاً حتى لابتياع بعض الهدايا الصغيرة لأصدقائك «هن». وحين وصلت إلى المطار، انتبهتَ لأوَّل مرَّة إلى تلك الألسنة الضخمة التي نبتت فجأةً في كلّ مكان ولم تفارقك منذ ذلك الحين.
تراودكَ رغبة في الكتابة. لم تفعل ذلك منذ زمن بعيد، لكنكَ لا تحمل قلماً. «يلعن الدني» تقول في شتيمة مهذبة حفظتها عن محمد، هذه أيضاً لم تتلفظ بها منذ زمن بعيد. شتائمهم «هنا» داعرة وغير منزوعة الدسم. «يلعن الدني» التي أخذتني بعيداً عن أحلامي... كان يجب أن أصير كاتباً، لولا أنني هاجرت باكراً. كان هذا أحد أحلامي الكثيرة.
المحل الثالث الذي خرجت منه خائباً يجعلك تصرف النظر عن الكتابة ويمنحك نعمة اليأس المريح ويقنعك بأن لا أقلام في محال هذه المدينة! لكنك تتذكر أنك دخلت إلى صيدلية ومخبز (هنا يقولون «فرن») وبقالة «دكان» حسب لغتهم هنا) ولم تدخل مكتبةً واحدة! تبتسم لنفسك، لا يعرف العابرون ذلك فيردّون الابتسامة إليك من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء فهمها. لا معنى للسؤال عن سبب ابتسامة في زمن الوجوه المكفهرة، سوى التكبّر على النعمة.
تتذكر مكتبة كانت قائمة بجانب مدرستك الثانوية، لا تطيل التفكير في وجوب زيارتها لاستطلاع مصيرها وما آلت إليه بتقادم الزمن... ولشراء قلم أيضاً!
الطريق إلى المدرسة لا يزال كما هو، هادئ تحيط به أشجار الكينا من الجانبين. لم تداهم العمارة البليدة المكان بعد. بل على العكس، البناء الوحيد الذي كان هنا لم يعد موجوداً. كان مقدّراً أن تكون لك في هذا المنزل مغامرة صغيرة لم تكتمل. يومها، حضرتَ إلى المدرسة باكراً جدّاً لتضمن وصولك قبل الجميع إلى المبلغ «الضخم» الذي تركته سهواً في طاولتك بالأمس! مبلغ لن يوافق والدك على تعويضك عنه لو عرف أنك أضعته باستهتارك. بكرتَ كثيراً حتى سبقت الحاجب إلى المدرسة بساعة ونيف، فتمشيت قليلاً في الطريق المحفوف بأشجار الكينا، حتى كلت قدماك، ووقفت برهة أمام البيت الوحيد. أطلت حينها على شرفتها ورمت إليك بقبلة لم تخطئك، وأتبعَتها بفنجان من القهوة أوصله المصعد إليك ساخناً يتصاعد منه البخار. كان جديداً عليك أن تشاهد بناءً من طبقة واحدة مزوّداً بمصعد كهربائي، وكانت هذه دعوة لا تردّ ولو كنتَ بعدُ غراً لا يشرب القهوة إلا إذا أضيف إليها بعض الحليب. دعوتها الثانية كانت كسابقتها لا ترد، فصعدتَ درجات السلم قفزاً ولم تفطن إلى استعمال المصعد نفسه الذي حمل إليك القهوة. وحين هممتَ بها وهمَّت بك، رأيتَ برهان ربّك على هيئة زوج ينظر شزراً من صورة معلقة على حائط. وهبطت الدرج قفزاً كما صعدته. كان لها زوجٌ ومات. قال أصدقاؤك يومها، لكنك لم تمنحها الفرصة لقول ذلك. نادتك في اليوم التالي لتخبرك أنَّها نزعت الصورة كي لا تزعجك، لكنَّك فضلت الهروب ــ كعادتك ــ إلى الأمام أو الخلف أو أيّ جهة أخرى، ولم تعد إلى ذلك المنزل ثانية. المنزل اختفى وصورة صاحبته تلاشت حتى يئستَ من محاولة استحضارها وتيقّنت أنك لو صادفتها اليوم فلن تعرفها. ستكون قد أصبحت عجوزاً... كل شيء يتغيَّر بسرعة... و ... هوووووب!
ومن داخل الحفرة المظلمة، وسط آلامك الهائلة والكسور في يديك وقدميك، تنظر إلى الأعلى، إلى بقعة الضوء التي ترسمها الفتحة الواصلة بين الأرض والسماء. «يلعن الدني»، كل شيء يتغيَّر بسرعة؟! لا شيء يتغيَّر أبداً، كان يفترض أنَّك تعرف هذه الحفرة جيداً وتحفظ مكانها. وكان من أحلامك الكثيرة أن تصبح مسؤولاً يفتدى بالروح والدم ويردم هذه الحفرة ومثيلاتها على كامل مساحة التراب الوطني... لولا أنَّك هاجرت باكراً!
* لبنان