من حسن الحظّ أنَّ شيطاناً أوحى إلى عنترةَ يوماً أن يقطع الشكّ باليقين، وأن يسأل في معرض الإنكار: «هل غادر الشعراء من متردَّم؟»، ومقصوده، على ذمّة المفسّرين، أنَّ الأوَّلين من الشعراء لم يدَعُوا شيئاً للمتأخّرين إلا قالوا فيه. شكراً عنترةَ على هديّتك القيّمة هذه التي لا أظنُّ أنَّ أحداً من الناطقين بهذه اللغة لم يتوسّل بها، ذات حين، للاعتذار عن اضطراره إلى تكرار المكرّر وتدوير المستهلَك؛ ولكن، دعني أصارِحْك بأنَّ التوسل بها، بوصفي «ناشرة»، وهي لفظة، على الأرجح، لن تفهمَها لو عرضتْ لكَ، بات يجعلني أملّ ويحرجني، وإذ لا يحتاج مللي إلى بيانٍ، فإحراجي يحتاج لربما إلى بعض التوضيح. عاماً بعد عام، في الموسم الذي تريد مواضيع الإنشاء أن الطبيعة تخلع فيه ثوبها الأخضر ووو، يلتئم في بيروت معرض يُدعى الناشرون بمناسبته إلى التدليل على قديمهم من الإصدارات وجديدهم، وعلى الاحتفاء بكُتّابهم، وابتزاز أرحام هؤلاء الكتّاب وأصدقائهم تحت عنوان حفلات التوقيع؛ وفي زحمة هذه الدعوة يتحوّل «الكتاب» إلى قَصعَة كبيرة تمتد إليها أيدي المتناولين، ويقتنص منها كلُّ واحِدٍ ما يحلو له ويطيب: هذا لحظةَ مجد مِجهريّة يتكفّل الفايس بوك بعملقتها، وذاك جولةً بين الجمهور يضيفها إلى رصيد مجهوده الانتخابي، وتلك باقةَ إطراء على فتنتها التي تزيدُ السنون منها ولا تُنقص!

وكما هؤلاء يمدّ الإعلامُ يده إلى القَصعَة تلك ويتحوّل الكِتاب، ومتعلقاتُه، (النشر، التوزيع، القراءة إلى آخره...) إلى مادة لا بد من الخوض فيها، ويتحوّل الناشرون إلى «خبراء» في كلّ هذه المسائل يشخّصون أحوال الثقافة، ويفتون الفتاوى في تدارك الجهل الزاحف، ويعقِدون الصفقات الصغيرة بين مناحتين وهكذا... بصراحة، يا عنترة، لا يُحرجني من شيء في أن أستشهد مُجدّداً بمطلع لاميتك مقدار ما يحرجُني أننا، مَعْشَرَ الناشرين الذين تُسْتَدلى دلاؤنا، السابقون واللاحقون والأوّلون والآخرون، وبهذا المعنى فإن نعتذر عن التكرار مستشهدين بـ«هل غادَرَ» فإنَّما نُمالئ ونكذب لأننا، في واقع الحال، لا نعتذر بل نقتنص، بدورنا، من تلك القَصعَة إيّاها، نصيبنا من «الكتاب» من حيث هو سَلَبٌ مسلوبٌ. لا أعني بما تقدّم أنَّ جماعَةَ الناشرين لا تتناسل، ولو بأعداد معدودة، ولا تضمّ إلى صفوفها صُنّاعَ كتاب جدداً ، فهذا مما لا يني يكون، وإنما أعني أنَّ صناعةَ النشر، في لبنان وسواه، رغم محاولات محمودة، تبدو في سباق مع نفسها في ميدان لا أفق له سوى التكرار؛ فإذ يتحوّل الكتاب لمناسبة معرض الكتاب إلى سَلَبٍ برسم العموم، فلأنه كذلك، ولو برسم الخصوص، على مدار العام (علماً أنَّ العموم الذي يحطّ رحاله في بيروت على الأواخِر من كلّ عام، هو عموم جوّال يحطّ رحاله في عواصم أخرى خلال فصول أخرى من العام). من ثم، ليس في الأمر ما يُدْهش، ولن يكون فيه ما يدهش إن تتابع وتتالى. من ثمّ أيضاً، من الحكمة لربما أن نباشر مصارحة أنفسنا بأنَّ النَّشْرَ صناعةٌ مترجمةٌ، في عداد صناعات أخرى حاولنا لها ترجمة إلى ثقافتنا، وأنَّ هذه الترجمةَ أصابت مقدارَ ما أصابت ترجمتنا لتقنيّات أخرى، ولوجوه التحكم فيها والإفادة منها، ولأساليبَ شتّى من العيش ومن السلوك ومن التخاطب. بالطبع، قد يحنّ واحدنا ـ واحدتنا  إلى زمن بدت فيه صناعة النشر، على غرار سواها من صناعات الحياة، بما فيها «السياسة» واعدةً بغير ما آلت إليه، وقد ينقم واحدنا ـ واحدتنا أنَّ «الكتاب» لا يبدو مرشّحاً  لمصير أفضلَ مما آلَ إليه وقد وقد، وحسبنا أن نقول في «الكتاب» ما قاله عنترة في حصانه: «لَو كانَ يَدري ما المُحاوَرَةُ اشتَكى/ وَلَكانَ لَو عَلِمَ الكَلامَ مُكَلِّمي». لا عَيْبَ نَسْتَعيبُهُ بَعْدُ ولا من يحزنون، فليكن معرض كتاب في إثر معرض كتاب، ولنمدّ أيدينا إلى القصْعَة!
* ناشرة «دار الجديد»