الجزائر | لم تمض أسابيع على صدور ألبومها الجديد Big Blue Desert الذي سجلته في العاصمة السينغالية داكار، حتى قررت فرقة «سبيد كارافان» أن تقوم بجولة موسيقية من شرق الجزائر إلى غربها في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
اختار مؤسس الفرقة الجزائري مهدي حداب (1973 ـ الصورة) مدينة تلمسان في أقصى غرب البلاد ليكرم بطريقته ذكرى أكبر صنّاع موسيقى الراي رشيد بابا، الذي اغتيل برصاص الإرهاب عام 1995، ليثبت ملك العود الكهربائي تعلقه اللامحدود بوطنه الأصلي ومبدعيه الذين ألهموا تجربته الموسيقية المبتكرة والمنفردة.
ولد مهدي حداب لأب جزائري أمازيغي وأم فرنسية، ونشأ في بروندي وأفريقيا الوسطى، ويقيم حالياً بين عاصمة الأنوار باريس وبياريتس المطلة على المحيط الأطلسي على الحدود الإسبانية. هذا التشتت في ربوع الجغرافيا المتناقضة والثقافات المنصهرة، صقل موهبته الفنية وشخصيته، وظهرت أول ملامح عبقريته الموسيقية حين اشتغل على المزج بين آلته الشرقية والغيتار الكهربائي، ثم بدأ ينقّب عن أصوات غريبة ومنفردة. صعد المنصة في الـ 13 من عمره، حينما أذهل الجمهور بعزفه على آلة الغيتار الكهربائي خلال مشاركته في حفلة رياض الفتح في أعالي العاصمة الجزائرية عام 1986. في هذه السنوات المضطربة التي كانت فيها الجزائر على حافة انفجار شعبي كبير، لمع نجم فرق وأسماء كبيرة في فن الراي، كما اقتحمت الساحة أنواع الموسيقى الغربية كالراب والروك والميتال تؤدي أغنيات جريئة وقوية. في خضم هذه الثورة الموسيقية والسياسية، عاش مهدي حداب طفولته ومراهقته، قبل أن يشد الرحال نحو أفريقيا السوداء، وفي السينغال تخصص في موسيقى الهارد روك وتشبع بإيقاعات وأغاني القارة السمراء. كما نهل من أعلام الموسيقى الكلاسيكية العربية والتركية خلال إقامته في تونس، وتأثر بتجربة القصبجي ورياض السنباطي والفنان التركي قادري صنصالار، ليحزم بعدها حقائبه نحو فرنسا.
هناك خاض تجارب مع فرق موسيقية شهيرة على غرار «ايكوفا» العالمية، التي تأسست في التسعينيّات، كما عزف إلى جانب الفنانة الفرانكو ــ أميركية دياردر دوبوا وعازف الإيقاع الإيراني عراش خالتباري. أسس بعدها فرقة أخرى «دو عود» مع العازف على آلة العود ومهندس الصوت الفرانكو ــ تونسي «سمادج»، حيث عملا على مزج الطرب العربي والترانيم الصوفية وموسيقى الجاز والالكترو، وعرفت مؤلفاتهما رواجاً كبيراً، سيما أنها قدمت صورة عن التزاوج بين الإرث التقليدي والمؤثرات الصوتية للتكنولوجيا. وظهر ذلك جلياً في الألبومات الثلاثة التي أصدرها الفنانان «وايلد سيرينايد» (2002)، و«سكات» (2006) الذي سجل في اليمن، و«بينغ كونغ» (2009). وفي عام 2005، أطلق مهدي حداب مشروعه الجديد «سبيد كارافان»، الذي يجمع فنانين من السينغال والجزائر وفرنسا. لكن هذه التجربة بدت استثنائية بعد عثور الفنان على آلته المناسبة: عود كهربائي مزود بدواسات مع إضفاء بعض التعديلات على الأوتار.

عثر على آلته المناسبة أي عود كهربائي بأوتار معدلة ومزود بدواسات
هكذا أطلق مهدي العنان لملكته في ترويض وإظهار قدرة العود الشرقي على محاورة الباص الذي يعزف عليه زميله باسكو تييه، وكيبورد هارميون فرانك وغناء وعزف إيقاع محمد بوعمار. إنتاج أغنيات الفرقة التي تجمع بين الموسيقى الأفريقية والشرقية والروك، تبنتها شركة «لابال» العالمية التي يديرها بيتر غابريال. تماماً مثلماً أرادها الفنان مهدي حداب، قافلة من الجمال تسري بسرعة محرك متطور، أبدع قطعاً موسيقية يجمع فيها بموهبة فذة بين الموشحات الأندلسية التي تعود إلى القرون الوسطى وإيقاعات الروك والإلكترو والبانك والبوب والجاز، ويصهرها بأنغام أفريقية وموسيقى الشعبي والراي والقبائلي، صانعاً لوحات نادرة ومبهرة، وصفتها المهندسة المعمارية العراقية الشهيرة زها حديد بـ «الصوت الجديد المتعدد الثقافات».
كان النجاح الباهر الذي حققه ألبوم «كلاشنك لوف» عام 2008 منعطفاً في حياة فارس الموسيقى الالكترو ــ شرقية، فقد استطاع بقدرة كبيرة الجمع بين تجارب فنانين كبار على غرار مغني الروك ــ راي رشيد طه، وعازف العود اليمني عبد اللطيف يعقوب، وعازف الغيتار رودولف بيرجيه، وفرقة الراب الجزائرية «أم بي اس»، والفنانة سعاد ماسي وغيرهم... كما عزف إلى جانب الفرقتين البريطانيتين المتخصصتين في الإلكترو روك «ذي كيور»، و«كيميكال بروذرز». ومنذ سنة 2009 اختارت شركة «ريل وورلد» إعادة توزيع الألبوم وتبني أعمال فرقة «سبيد كارافان»، لتنطلق هذه القافلة في رحلة فنية عبر العالم بأسره. شارك قائد الفرقة مهدي حداب أيضاً في تأليف الموسيقى التصويرية لأعمال سينمائية عدة، منها الجزء الثاني من فيلم «وول ستريت ــ 2» للمخرج أوليفر ستون عام 2010، ووثائقي «الأمير عبد القادر» للمخرج سالم ابراهيمي عام 2014، كما ألّف مقاطع موسيقية لمسرحية «الحب الهش لديسيديمون وعطيل»، التي اقتبسها المخرج الفرنسي مانويل بيولات سوليمات عن رائعة شكسبير عام 2013. كما تعامل مهدي حداب مع نصوص أدبية واستلهم منها لوحات فنية، مثل رائعة «كيلينغ دو أراب» أو «مقتل العربي» المستوحاة من رواية «الغريب» لألبير كامو، وأداها برفقة فرقة «ذي كيور» البريطانية. يراهن الفنان الجزائري على جمهوره في الدول العربية أيضاً، حيث يلقى منهم تجاوباً منقطع النظير مع إيقاعاته المفعمة بملامح الطرب العربي، والمشبّعة بطاقة الموسيقى الغربية المعاصرة، إذ يرفض أن يكون مجرد فنان يذهل عشاقه الغربيين بآلته الشرقية العجيبة مستغلاً نزعتهم الاستشراقية وولههم بكل ما هو «غرائبي» بل يثبت في كل حفلة أنه مبدع مجدد ومبتكر مجنون.

* «سبيد كارفان»: س: 22:00 مساء اليوم ــ «مترو المدينة» (الحمرا ــ بيروت)