عند الحديث عن أي تجربة موسيقية معاصرة مميزة، فإن التركيز يتجه عادةً إلى الاشتغال الموسيقي. لكن عندما يتعلق الأمر بفرقة «نردستان» المغربية، فالأمر مختلف كلياً. عليك أن ترهف السمع، لأنّ الأصمعي سيتذوق الراب، وقصائد التحرر التي أطلقها جبران خليل جبران، وأحمد مطر، ومحمود درويش، ونزار قباني وغيرهم سترقص بـ «أريحية» على أوتار الـ Electro hip hop، وكل هذا في «وطن متخيل» اسمه «نردستان».
أغلب الفرق المنتمية إلى عالم الموسيقى الغربية (راب، روك، روك ميتال...) في عالمنا العربي، خاضت خلال العقود الثلاثة الماضية، صراعاً مع الخصوصية الشرقية لخلق نوافذ أكثر انفتاحاً في ظل الانغلاق السياسي والاجتماعي وأزمة الهوية التي تتجذّر يوماً بعد آخر. لكن هذه التجربة اختارت، في السنوات الأخيرة، توجهاً مختلفاً تماماً، خصوصاً بعض الفرق العربية الناشطة في الغرب، التي اتخذت خيارات أكثر التصاقاً بالهوية وبتراث المنطقة الموسيقي والشعري. هذا ما نراه في تجربة الفنانة السودانية «السارة» القادمة من نيويورك، التي تحيي تراث بلدها، خاصة الجانب «النوبي» منه، بدءاً من اسمها الذي تصر على تقديمه على أنه «السارة» (كما ينطقه أهل النوبة) وليس «سارة»، وصولاً إلى اكسسواراتها وأزيائها واشتغالها على النص التقليدي بشكل حديث يظهر أكثر على التوزيع الموسيقي من دون المساس بجوهر اللحن أو الشعر. الأمر ذاته بالنسبة إلى فرقة «نردستان»، التي يعيش أعضاؤها الأربعة في الجنوب - الغربي لفرنسا، لكنها قررت ترسيخ هوية ومفاهيم أشمل.
تُعد «نردستان» من التجارب الأكثر تميزاً في عالم الموسيقى البديلة. هي لا تشكل ثورة على مستوى المرجعيات الموسيقية كما حدث مع تجربة Alternative rock في الثمانينيات فحسب، بل يحدوها أيضاً «مشروع» أعمق، هو خلق «وطن متخيل»، يمكن من خلاله تحقيق أعلى هامش من حرية التعبير والدفاع عن الهوية بكل تنوّعها. لذلك، فإنّ مفهوم «البديل» لا يشكل قطيعة نهائية مع الماضي في مشروع «نردستان». أعضاء الفرقة الرباعية، المغربي وليد بن سليم (1984 ـ مغني الفرقة وعازف الغيتار)، ووداد بوروك (أول فتاة تحترف الراب في المغرب) مغنية ومتخصصة في الإلكترو آلي، وزميلاهما الموسيقيان سيريل (كاتالوني – بورتوريكي) على الإيقاع، وبنجامين (فرنسي من أصول إيطالية - انكليزية) على الناي، اجتمعوا في فرنسا لخوض مشروع يشمل خصوصيتهم جميعاً، ويوصل صوت «المنافي»، عبر كل ما يحملونه من ثقافة ووجع وحنين للأوطان الأم، خاصة أنّ المغنيين وليد ووداد يؤكدان في كل مرة على أهمية التجارب المغربية الموسيقية السابقة حتى الكلاسيكية منها التي استمع إليها الناس طويلاً ورددوها.

تصبح الكلمة هنا منافساً للإيقاع، بل مروضاً له


النواة الأولى للوطن المتخيل «نردستان»، تشكلت في نهاية التسعينيات مع بداية ولع المراهقين وليد بن سليم ووداد بتجربة المغني الأميركي 2PAK والألبوم الشهير لفرقة الهيب هوب Thug life، الذي انتقل إلى العالم العربي في النصف الثاني من التسعينيات بعد الموجة القوية التي أحدثها في الولايات المتحدة. وقتها، لم تكن النظرة إلى الهيب هوب وغيره من الأنماط الجديدة كفنون بديلة أو حتى كفنون، بل كمحاولة «تغريب» تريد ضرب هوية مجتمعات الاستقلال الحديث في المغرب العربي الغارق في مشاكل سياسية واجتماعية كبيرة، ينعكس عبرها فشل الأنظمة في خلق دولة المؤسسات وحماية الحريات. بينما كانت الجارة الجزائر غارقة في حرب أهلية صادمة للعالم، كانت تونس والمغرب تضيّقان الخناق على الشعوب عبر ممارسات «الدولة البوليسية» التي تحاول كبت الأصوات المتفردة التي يمكنها خلق حراك لتحقيق العدالة الاجتماعية. في هذه الظروف، قرر وليد بن سليم خوض تجربة الراب بالاشتراك مع صديقيه إلياس بلحسين ووداد. وكانت البداية مع Thug Gang كتحية إلى الفنان 2PAK. بداية ستتحول لاحقاً إلى مشروع كبير، خصوصاً بعدما غادر وليد ووداد المغرب في 2001 للدراسة في فرنسا.
في 2007، غنى الثنائي في الدار البيضاء مجدداً، لكن هذه المرة في جو لا يشبههما أيام مراهقتهما، فعدد الجمهور في مهرجان «البولفار» بلغ يومها 20 ألفاً. بعد تلك التجربة وحفلات عديدة خاضها الشابان في أوروبا، ومرحلة مهمة من البحث الموسيقي والكتابة المشتركة باللغة العربية والدارجة المغربية، بدأ مشروعهما الفني ينضج. مع أحداث 2011 التي اجتاحت العالم العربي وتوسع رقعة المنافي والأوجاع العربية، فكر الشابان في ضرورة خلق «وطن متخيل» يمكنه استيعاب كل تلك الأوجاع وكل ذلك التنوع الثقافي ببعده العربي، الإفريقي، الأمازيغي والإنساني، فاختارا «نردستان». وأينما حلت الفرقة، كان وليد يرحب بـ «النردستنيين» ويفتح سفارة على الركح يسيرونها بأحلامهم.
في معظم مشاريع الموسيقى المعاصرة، يحتل الاهتمام بالإيقاع والنمط الموسيقي، المساحة الأساسية. لكنّ الكلمة في تجربة «نردستان» تأخذ حظاً مختلفاً، ويرفع وليد بن سليم معها سقف التجربة عالياً جداً على كل المستويات. رغم أن وداد تحافظ على ملامح وأداء مغنية الراب التي تتقن التحكم بالجانب الآلي، فإن وليد الذي يشكل عصب الديناميكية في الفرقة يتجول بسلاسة من نمط موسيقي إلى آخر، وتبرز بصمة الاختلاف في أدائه من أغنية إلى أخرى. وربما هذا ما جعله يحمل مكبر الصوت داخل الاستوديو في جنوب فرنسا بيد، وكتاب «شعراء إرهابيون» الذي أهدته إياه والدته بأخرى، ويحاول ضبط إيقاع مناسب لقصيدة أحمد مطر «طفح الكيل». ثم يستمر التجريب وتنضم إلى قصيدة أحمد مطر مجموعة من القصائد لجبران خليل جبران ومحمود درويش ونزار قباني... وتصبح الكلمة منافساً للإيقاع، بل مروضاً له، إلى درجة أنّ «نردستان» فاجأت جمهورها في «مهرجان أرابيسك» في مونبولييه عام 2014 بأغنية «صوت صفير البلبل» للأصمعي بأداء عال من الراب، وقدم وليد لاحقاً أغنية «لكل شيء» مرثية الأندلس لأبي البقاء الرندي، التي أدى فيها شكلاً مختلفاً عن كل ما أداه في السابق، إذ بدا أكثر كلاسيكية في استحضار القرن السادس الهجري بجلاء الموسيقى الشرقية.
هذا التراكم جعل «نردستان» تصدر EP (ألبوم مصغر) بُثَّ على اليوتيوب تحت عنوان «تعيش تشوف» في تشرين الأول (أكتوبر) 2015، فيما أكدت لـ «الأخبار» أنّ «ألبومها الأول وصل حالياً إلى مرحلة التسجيل والميكساج»

* «نردستان»: 23:00 مساء الجمعة 9 كانون الأول ـ «ستايشن»