صديقي العزيز بدر، وأنت هناك في أبديتك الشاسعة، كيف حالك؟
مرّ تسعون عاماً على يقظتك الأولى في هذا العالم، واثنان وخمسون عاماً على اغماضتك الأخيرة، وما بين اليقظة والاغماضة، مرّ كثيرٌ من الموت علينا. أما المنافي التي وقفت يوماً وحسبت نفسك أنت الغريب الوحيد على الخليج، فأطمأنك بحرارة صادقة بأن الخليج ذاته بات غريباً، وان الشواطئ عجّت بالفارين من ليل العراق. أما مدينتك يا صديقي، فهي باتت خزاناً بشرياً هائلاً للموت، وهياكل تحترف البشاعة! ومن فم الفاو دخلها المحتل مجدداً. والعشائر تقصف السماوات بكثير من الرصاص.
لكن دعني أقول لك وأنت تجالس الآن أصدقاءك الغيارى ممن كنت معهم يوماً تنادم الزمن على مسرات لم تتحقق، إن نبوءة العرافة التي صادفتموها ذات يومٍ ستيني صدقت، وكذبت يا بدر حين قلت لمحمود عبد الوهاب ومحمود البريكان وعيسى مهدي الصقر وسعدي يوسف «لنتسلى»! فتلك «التسلاية» الوقحة، قذفت بكل واحد منكم إلى مصيره المفجع. فأنت - كما تعرف – بعدما ظللت تذرف الكثير من المطر في قصائدك مردداً «مطر..مطر..مطر»، لم تجد أحداً يُقلك يا بدر من الكويت عبر سفوان إلى البصرة وأنت مسجى بنعشك سوى المطر. شبعت مطراً يا أباً غيلان حتى إن عائلتك الصغيرة طردت من البيت الجاهز في الموانئ يوم مت، فكنت وعفش البيت والعائلة والبلاد كلها تحت مطرك! أما محمود، فمات غريباً وحيداً، والبريكان قُتِل ببشاعة، وسعدي يكرع الويسكي ويكتب شعراً ويشتم، لم يتبق من مدينتك سوى الظلام الذي حففتها به ورحلت.

بدر عزيزي، أرجو في المرة المقبلة، حين تبعث برسائلك إلى المجهول، ألا تعنون محل إقامتك بجيّكور/ نهر بويب؛ لأن النهر الصغير المُعذب من شهرة زائفة قد جف وبات خندقاً مترباً تغزوه الملوحة والدغل. أما منزل الأقنان، فإنّ وزارة الثقافة العتيدة حولته إلى بلاتوه رخيص، وعلبة فاقعة مغطاة بطين مستورد، وشناشيل ابنة الجلبي عند مفرق باب سليمان، قد تداعت، ويقال إن مولاً سيقام على أرضها، عموماً لا تقلق... أنت ما زلت تقف بصلافة عند شط العرب قبالة البنك المركزي. المشكلة أن أهل مدينتك دوماً يوجهون الاهانات إليك- هل شاهدت الرايات ـ؟، فأنت الجنوبي المسلول المفلس الجائع تتجمهر ببزة أنيقة أمام خزان المال، حتى انك أصبت بشظية من الشرق، فخرقت جيبك الفارغ واندلق الكثير من الانتهازيين منه، لكن الحكومة قررت إغلاق خرم الشظية! وأجدني أدعوك ملزماً يا بدر أن تُحسّن علاقتك بالله في الفترة المقبلة، ريثما تقنعه باستقبال تمثالك أيضاً، ولا تستغرب فأنت الوحيد الذي تدير ظهرك إلى شرق البصرة الآن، ولا أظن إن أي خوذة ستقيك رصاصة حاذقة تصيب اعتراضك! مرة، حين كانت البصرة جبهة عقب 20 عاماً من موتك، وبات الجامعيون والأكاديميون يلبسون الكاكي، افترض الراحل الدكتور علي النجدي سؤالاً: ماذا كنت ستفعل لو كنت الآن مقاتلاً في خندق؟!
صديقي العزيز بدر، حملني الشاعر الراحل محمد علي الإسماعيل أمانة تذكيرك بأن ثمة قصائد لم تنشر لك بعد، وهو يقترح عليك أن تُطبِّع بدار الأبدية، وتوزع على منتحلي الشعر، كمساهمة جادة منك في رعاية المواهب الضارة!
بدر... البصرة لم تعد بصرتنا التي نعرف، ولم يعد من النخيل الفسيح شيئاً، وإن القمر الذي كان يداعب وهناً صفحة الماء ساعة السحر، تغطيه الآن طبقات سميكة من النفط الأسود. أما الدروب، فنما فيها كثير من الجوع. لذا أرجو أن ترسل لأحمد الناطور أن يستبدل ما كتب على شاهدة تمثالك بـ: «ما زلت اضرب مترب القدمين أشعث، في الدروب تحت الشموس الأجنبية/ متخافق الأطمار، أبسط بالسؤال يدا نديّة/ صفراء من ذل و حمى: ذل شحاذ غريب بين العيون الأجنبية/ بين احتقار، وانتهار، وازورار .. أو «خطيّة»/ والموت أهون من خطّية».
الرسالة من أبي الخصيب/السيبة/الشلهة البحرية.
* شاعر من العراق