إعداد وترجمة: سعد الباز*
كان تشارلي تشابلن أكثر من سينمائي عادي، ففضلاً عن تعدد إبداعاته بين الموسيقى والإخراج السينمائي والأداء العبقري، كان أيضاً قريباً إلى عالم الأدب، خصوصاً بعدما ظهرت روايته Footlights التي كتبها سنة 1948 وأفرج ورثته عن مسوداتها قبل عامين. لم تقتصر عبقرية تشارلي تشابلن على أفلامه الصامتة والهزلية فقط، ولا على أفلامه التي تعدّ بحقّ مدرسة سينمائية متكاملة مثل «أضواء المدينة» (1931)، و«الأزمنة الحديثة» (1936) و«الديكتاتور العظيم» (1940). كان الفنان الإنكليزي موضوعاً للكتابة وكانت شخصيته وإنتاجه الوفير والعميق في الآن نفسه، محط اهتمام الأدباء والمفكرين، حتّى أنّ برنارد شو الساخر والمتشدّد في أحكامه على رجالات عصره كان يحلو له أن يصفه بأنّه: «العبقري الوحيد الذي خرج من الصناعة السينمائية». في هذا الملف سنجد أحد أكبر كتاب الرواية عمقاً في العصر الحديث التشيكي فرانز كافكا يضع تقييماً لأعمال تشارلي تشابلن، بينما يشيد الشاعر الروسي المستقبلي والطليعي فلاديمير مياكوفسكي بشخصية تشابلن في وجه أوروبا المتخمة بريائها. أما الشاعر السوريالي الفرنسي روني كروفيل فيعدّ تشابلن العجلة الرابعة، بعد لوتريامون وغاري ورامبو، لعربة العباقرة موصياً إياه بجلْد الحوذي، وأخيراً الشاعر الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا الذي لم تشدّه نحو تشارلي سوى الأسماك الحمراء ورمزيتها الشفافة التي توحي بما كان لهذا الأخير من مواقف سياسية يسارية جعلته يغادر أميركا التي صنع فيها أمجاده السينمائية قائلاً: «لن أعود إلى أميركا حتى لو ظهر فيها المسيح».

كافكا: تشارلي تشابلن صانع الطاقم الاصطناعي للخيال

يحكي غوستاف يانوش في كتابه «أحاديث مع كافكا»: عندما ظهرت في براغ، بعد الحرب العالمية الأولى أوّل الأفلام الأميركية الكبرى، ومعها الأفلام الهزلية لتشارلي تشابلن، وصلتني علبة كاملة من المجلات الأميركية ومعها بعض الصور الإشهارية لأفلام تشارلي تشابلن الهزلية، من لودفيغ فينديك الذي كان حينها شاباً سينيفيليا متحمّساً، وقد أصبح الآن صحافياً سينيمائياً.

كافكا الذي أظهرت له تلك الصور تقبّلها بابتسامة ودّية. «هل تعرف تشارلي تشابلن؟» سألته، فأجاب كافكا: «من بعيد، لقد شاهدت له فيلماً أو فيلمين من هزلياته». فحص كافكا بجدية وانتباه الصور التي وضعتها أمامه، وأضاف متأمّلاً: «إنّه حيوي جدّاً، مهووس بعمله، في عينيه يتلألأ لهيب اليأس في وجه القدر الثابت للضعفاء، ومثل كلّ فكاهي حقيقي يمتلك أسناناً متوحشة ومعها يندفع باتّجاه العالم. ويقوم بذلك بطريقة ليست إلّا له وحده، رغم وجهه الأبيض والهالات القاتمة حول عينيه، فهو ليس بالمهرّج العاطفي وليس كذلك بالناقد الفظ سريع الغضب. تشابلن تقني، وهو إنسان عالم بالآلة، في عالم لم يعد متوافراً فيه الكثير من أشباهه لا بالعاطفة ولا بالأدوات الذهنية الضرورية من أجل امتلاك الحياة الممنوحة لهم. إنّهم بلا خيال، وتشابلن سيشرع عندها في العمل مثل صانع أطقم الأسنان الاصطناعية. إنّه إذاً صانع الأطقم الاصطناعية للخيال. وهذه هي أفلامه، وهذه هي السينما عموماً». قلت لكافكا بأنّ صديقي الذي أهداني الصور قد أخبرني بأن سلسلة من أفلام تشارلي تشابلن ستعرض قريباً... هل تريد مرافقتي؟ «لا، شكراً لا أفضل ذلك»، أجابني كافكا وهو يهزّ رأسه: «اللهو والتسلية بالنسبة إلي مسألة في غاية الجدية، بإمكاني أن أجد نفسي بسهولة هناك تماماً مثل مهرّج بدون مكياج.

فلاديمير ماياكوفسكي: شوارب تشابلن هي ما تبقى لأوروبا من وجه

أوروبا
هي مدينة.
العيون فتشت كومة
من الواجهات.
عيون متخمة بقطرات
متعددة الألوان.
على الأعمدة
على الطرقات
بآلاف
من النبرات
تشارليي تشابلن
رجل صغير مذلول ومهان
في لوس أنجلوس
في الجانب الآخر من المحيط،
يدير بوبينة السينما.
وكلّ أولئك الذين يملكون شفاهاً
يضحكون إلى حدّ العجز عن الضحك
إلى حدّ الإصابة بالمغص.
... اخرسي يا أوروبا
أيتها البلهاء بالكامل
سادتي،
خبّئوا أفواهكم
لستم أنتم
أعرف ذلك
لستم أنتم
أنا متأكّد من ذلك.
إنّه تشارلو من يضحك عليكم
يا ذوي البطون البدينة
يا ذوي الجباه الضيقة
أيها الأوروبيون!
ربّما
شوارب تشابلن
هي ما تبقى لأوروبا
من وجه.
روني كروفيل: صباح الخير شارلو

عندما ولدت أو بالأحرى – وهو ما يحمل المعنى نفسه - عندما انتبهنا إلى أنّك كنت موجوداً، كنّا حقّا بحاجة إليك، لكننا ضحكنا من الزيّ الخاصّ بك، قبل أن نضحك من وجهك، ثم إنّ المستبصرين قد أدركوا ما لديهم من قسوة. ذلك أنّ حزنك هو بالفعل ما يسلّي. شارلو مع حنينك لأيّ فردوس مستحيل، بعصاك في اليد، هل أنت ذاهب بهذا الحدّ من العجلة؟ أتذكرك قضبان السرير عند الاستيقاظ كلّ صباح بتلك التي للقفص، الذي اعتقدت بأنك هربت منه البارحة في المساء؟
هل يهرب شارلو؟ لا، شارلو لا يهرب، ولا يمكن له أن يهرب. دائماً الشيء نفسه يا صديقي، أنت سجين نساء ومناظر، أنت سجين هندامك، وسوداويتك، وشفقتك، وفنّك في إثارة الضحك. أهو فنّ إثارة الضحك! إنّه بالخصوص الإرادة في إثارة الضحك. وأنت ذكي جدّاً، تريد أن تكون على حقّ من الكائنات والأشياء التي أنت عبد لها، ولكي تكون متيّقناً من الضحك عليها، تضحك من نفسك وتثيره حول نفسك. لهذا نتحدث عن فكاهتك. باختصار لا يمكن أن نلقي عليك الكثير من اللوم، فالفكاهة موضة العصر...
نعدّد لوتريامون، غاري، ورامبو. تعال معهم، وكن العجلة الرابعة للعربة، واجلد الحوذي...
أتقول بأنّنا لسنا عادلين! لست مخطئاً، لكنك ترى أنّ العصر يحبّ كثيراً الأفكار الواضحة كي لا يحيا الأفراد. فكاهتك مثل كلّ قطع بدلتك تسهم في تخيّلك بطريقة أفضل، لو كنت قد تعرّيت، لو كنت تمثّل عارياً... لا أحد سيتعرّف عليك. لكنّني سأقول لشارلو الحقيقي الذي ما زلت أجهله: صباح الخير شارلو.
* فيدريكو غارسيا لوركا: أسماك شارلو الحمراء
ثمّة اختلاف ملحوظ جدّاً بين شارلو والبشر. كلّ البشر يسخرون من الأسماك الحمراء في ما يبكيها شارلو. ما من فنّ تمّ استعمال الدموع فيه إلى هذا الحدّ من النقاء. شارلو يجعل من الدموع قضية، مصدراً معزولاً، لا علاقة له بالموضوع الذي كان سبباً فيها... إنّنا نمنح الضحك إلى الأسماك الحمراء لأنّ الضحك وفير ولأنه لا يتطلب مجهوداً. بعدما يتمّ منح الضحك إلى المرأة وإلى السماء، ومنح الأنغام المرحة إلى الربيع، يتبقى المزيد من الضحك من أجل الفيلة والأسماك الهادئة والأكثر بعداً، الأسماك الحمراء. الذي يبكي يتبدّد مثل شمعة لهذا السبب يبخل الجميع بدموعه، بينما شارلو يهب دموعه إلى الأسماك الحمراء معطياً مثالاً للحكمة، والمساواة التي لا مقابل لها أبداً. لهذا كان لأفعاله وحركاته معنى جديداً. إلى الموت أعطى شاربه الصغير الكوني الجميل. وإلى الجوع صفاءه، وإلى العاصفة الجامحة أعطى الترددات فائقة الوصف لكتفيه. وإلى الأسماك المسكينة والسخيفة، الأسماك الحمراء يقدّم لها بدون قياس دموعه التي تجمعت فوق البلورات التي منها تنهمر.