يخبرنا الكاتب الألماني ف.ج.زيبالد في «المغتربون» («دار التنوير» ــ ترجمة أماني لازار) قصصاً شتى عن فقدان الأمكنة والانتماء، ما جعل من روايته وصفاً مسهباً ومحايداً لمصائر المدن وسكانها. يوزع الكاتب الهجرات القسرية لليهود على أربع حكايات منفصلة، مكتوبة بروح كآبة عميقة، مشبعة بالهجران والاغتراب والأسى المرعب. تأخذ الرواية هيئة سرد طويل ومتصل لأوجاع لا تفقد بريقها حتى الصفحة الأخيرة. تدور الحكاية الأولى حول فكرة مفادها استحالة الخلاص من الآلام التي تسببها الأمكنة بعد الاغتراب عنها، إذ إنّ عقدة الدكتور هنري سلوين ستتحدد في ذاكرتهِ. الرجل الذي غادر ليتوانيا في عمر السابعة إلى أميركا، وفق ما اعتقد المغتربون معهُ، ليكتشفوا أنّ السفينة ستحط في إنكلترا، يدرس هناك ثم يدخل مجال الطب. لكن همته على الدراسة تفتر، ليغادر مع دليل سياحي إلى الجبال، حيث سيشكل فقدان ذلك الدليل في منحدر ثلجي أزمة شبيهة بفقدانه للوطن. سيقف هنري عاجزاً عن التعبير في كلتا الحالتين، إنّها أصعب لحظات حياته على الإطلاق. كان قد اشترى بندقية صيد وهو شاب إبان ذهابه إلى الهند ليعمل في الطب، وأول مرة استخدمها كانت بقصد القتل، عندما جلس على حافة السرير وأسند البندقية على الأرض، ثم أطلق النار على نفسه.

بعدما عاش عمره مانحاً عنايته للأفكار، التي كلما ازدادت وضوحاً، راح غموضها يتضاعف؛ انحسار الحب والولع بالأحصنة، والموتى الذين يعودون والأحياء الذين يمضون إلى أيامهم، كان استرجاع الحياة السالفة للدكتور سلوين مدعاة تأثر، وقد جعل الكاتب من مشهد موته ذروة تلك الحياة.
على نحو مشابه، تمضي الحكاية الثانية للمدرس بول بيرايتر. الرجل الذي لم يرتد معطفه طوال أربعين عاماً، ارتداه أخيراً وتمدد على سكة القطار منتحراً بذلك الشكل العنيف. إذ كان يتصور أن القطارات تتجه نحو الموت، بعدما كانت وسيلة تهجير اليهود من فيينا، كما حدث مع حبيبته هيلين بالتزامن مع منعه من التدريس بالرغم من أنّه أراد تعليم الأطفال مهما كلفه ذلك من ثمن. عُرف بيرايتر بـ «الدروس العملية» التي كان يقدمها، حتى أنّه طلب من الراوي عندما كان تلميذاً في صفهِ، أن ينزع الكنزة الصوفية كي يرسم زملاؤه الأيل الواثب المرسوم عليها، كما سلق ثعلباً ميتاً، مثيراً ذعر جيرانهِ كي يجمع هيكله العظمي مع تلامذتهِ، وأخذهم في رحلات علميّة إلى المعامل والورش والمدافن الأثرية. بول الذي يمقت النفاق والورع الكاثوليكي والذي يغادر القرية أيام الآحاد، سيبني علاقة جيدة مع النباتات والقطط والديكة. كان يمضي أيامه في عزلة أخاذة، يتأمل الجبال من النوافذ ويعاني رهاب الأماكن المغلقة.

يوزع الهجرات القسرية لليهود على حكايات مشبعة بالاغتراب والأسى

لكن حياته تدهورت من السعادة إلى التعاسة حتى تفرغ لقراءة الكتّاب المنتحرين. إنّ ابتهاجه الملفت إزاء الآخرين جعله في الواقع «الكآبة نفسها».
يدرج الكاتب خلال السرد صوراً من ألبومات تعود إلى أناس حقيقيين، ويستثمر تلك الصور كي تبدو مشاهد الشخوص واقعية في الرواية. في الحكاية الثالثة التي تدور حول خال والدته آمبروز ادلفارت، دفع الراوي بأدلفارت إلى السفر إلى أميركا جراء حاجة ملحة للاطلاع على حياة الناس الذين في الصور، أي عائلته من والدتهِ. وصل إدلفارت إلى أميركا قبل الحرب العالمية الأولى وعمل في أفضل منازلها، قبل أن يصير كبير الخدم في عائلة سولومون، لتربطه علاقة تنطوي على حس مأساوي بينه وبين ابن العائلة الثرية الذي يعاني مرضاً عقليّاً مدمراً. بعد سنوات طويلة وجولات شملت اليابان وأوروبا والقدس، قاما خلالها باللعب في الكازينوهات أو باكتشاف الأمكنة، سيخضع الخال نفسه لعلاج نفسي يفضي إلى قضاء مبرم وكلي على قدرته على التذكر والتفكير.
وبينما يعاني توقاً إلى سرد حياته، سيفقد القدرة على التعبير، وسيكتفي بالجلوس على المكتب والنظر إلى الأرض، قبل أن يموت بسكتة دماغية وهو يقرأ الصحيفة.
تجيء الحكاية الرابعة متسقة مع سابقاتها حول الرسام ماكس فربر، الذي يتناوب مع الراوي على سرد حياته، وحياة والدته عبر
مذكراتها.
توزعت إقامة ماكس بين مانشستر وسويسرا ولندن، بين الخدمة الإلزامية والعمل الفني، اندفع من هاوية إلى أخرى.
يعمل باجتهاد إلى درجة البكاء، ويخفي أصوله اليهودية كما باقي الشخوص في جل الرواية، بينما يعاني مع أهله من قطارات الترحيل التي جعلتهم سلالة طويلة من الوجوه المتوارثة منهوبة الانتماء. يلفت الراوي إصرار اليهود على أسمائهم المرتبطة بحميمية بالغة بالبلد الذي ما توقف عن طردهم وتجريدهم ملكياتهم. سينتهي فربر في مستشفى إثر مرض رئوي، حاله حال الكثير من الشخصيات التي تقضي تاركةً أساها في الصفحات.
يقتفي الراوي آثار ذلك الأسى، ويضيف حكاية إلى أخرى ليصنع أدباً ينتصر للموضوع وينجب من صلبه شكل المعالجة الروائية. هكذا، راح زيبالد يحيك روايته من الشجن الخالص واللوعة الحارقة مشبعاً بإرادة هزيمة منيعة. ومثلما «يبحث المغتربون عن أشباههم»، سرد زيبالد حيوات متشابهة تتمايز فقط بتفاصيل الفقدان!