منذ أعلن الكوميدي الفرنسي (ذو الأصول التونسية اليهودية) عن نيّته اعتلاء ركح المسرح الروماني بقرطاج يوم 19 تموز (يوليو) المقبل، حتى اندلعت «الحرب» على فايسبوك. من جهة، هناك مناهضو التطبيع مع «إسرائيل» الرافضون لأن يكون هذا الصهيوني ـ باعترافه الشخصي ـ أحد ضيوف «مهرجان قرطاج».
ومن الجهة المقابلة، صهاينة، تونسيون متصهينون، و«المؤلّفة قلوبهم» من غلاة «الليبراليين»، الذين يخفون بصعوبة كرههم التقليدي لكلّ ما له علاقة بـ «العروبة» وما يعتبرونه «خطاباً خشبياً وأيديولوجياً» قديماً عن قضية فلسطين.
بدأ السجال بتصريح إذاعي لمختار الرصّاع، مدير «مهرجان قرطاج الدولي» (والوجه المعروف في البيروقراطية الثقافية لنظام بن علي)، الذي دافع عن برمجة عرض بوجناح بشكل استفزّ مناهضي الصهيونية في تونس. لم يتردّد الرجل لتبرير قراره في الحديث عن «حقّ اليهود» في زيارة «أورشالايم» (هكذا نطقها بالعبريّة!) و«حائط المبكى»، قبل أن يردف ذلك بتنظيرة مبتكرة عن أنّ بوجناح لا يُعدّ «صهيونيا كبيراً أو من قادة الصهيونيّة».
أتى الردّ في رسالة مفتوحة وجّهتها «الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني» إلى وزير الثقافة ومدير المهرجان. استهجنت الحملة هذه التبريرات المخزية، وذكّرت بالسجّل الحافل لبوجناح في دفاعه عن الكيان الصهيوني وجرائمه، مطالبة بإلغاء العرض.

موقف متوقّع لبعض
وسائل الإعلام وفقاقيع «المجتمع المدني»

وفيما بدا حملة معدّاً لها مسبقاً، شنّ صهاينة (عديدون موجودون في فلسطين المحتلّة) وتونسيون «حداثيون» هجمة على صفحة موقع «نواة»، الذي نشر الرسالة المفتوحة. غصّ المنشور بتعليقات البعض المذكّر بأنّ «بوجناح تونسي» (يحمل الجنسيّة آلياً بحكم ولادته في تونس التي غادرها مع عائلته إثر حرب 67)، و«يحبّ تونس أكثر من غيره» (هكذا!)، وبأنّه لا يحقّ مصادرة حرّيته في التعبير عن «صهيونيّته» وإلخ، فيما ركّزت تعليقات أخرى – تدلّ على أنّ أصحابها لا يعرفون مواقف بوجناح ولم يقرأوا الرسالة أصلاً – على أنّه ليس صهيونياً. وحجّتهم الوحيدة في ذلك أنّه «تونسي». بوجناح وجد في صفّه أطرافاً معروفة بتطبيعها مع الصهاينة مثل الناشطة يامينة ثابت، رئيسة ما يسمّى بـ «الجمعية التونسية للدفاع عن الأقلّيات»، التي اتّهمت خصوم بوجناح بأنّهم «يدّعون معاداة الصهيونية لإخفاء جبنهم عن إعلان عدائهم لليهود».
وبغضّ النظر عن هذا الموقف المتوقّع لبعض وسائل الإعلام وفقاقيع «المجتمع المدني»، التي ظهرت بعد 14 جانفي وتخصّص بعضها في «سوق الدفاع عن الأقلّيات والحرّيات» بمقاييس وأولويات وتعريفات المموّلين الغربيين، كان لافتاً مواقف بعض «المثقّفين» من أدعياء «الحداثة» أبرزهم رجاء بن سلامة، التي ساندت بقوّة في الانتخابات الأخيرة حزب الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي فكافأها بتعيينها مديرة للمكتبة الوطنية. فاجأت الدكتورة في «الحضارة العربية» ومديرة موقع «الأوان» للثقافة «التنويرية» وإحدى مؤسسات «رابطة العقلانيين العرب»، متابعيها بتدوينة فايسبوكيّة فاقت في سطحيّتها. حسمت الموضوع بكلّ بساطة بقولها عن بوجناح: «طبعاً هو يهودي. وماذا تريدون من يهودي؟ أن يعتنق الإسلام؟ أن يشتم إسرائيل ضرورة؟» قبل أن تردف تحليلها العميق باعتبارها «المطالبة بإلغاء عرضه هي من باب محاكم التّفتيش الجديدة». وهو ما جعل المثقّف اليساري شكري لطيف يردّ عليها بتدوينة أخرى كشف فيها تهافت حججها وازدواجية خطابها. ذكّرها بما ارتكبته في حقّ المفكرّ الراحل محمّد الطالبي (مؤرّخ مسلم مستنير عرف بمعارضته الشديدة للديكتاتورية وللإسلاميين إثر الثورة) عندما منعته السنة الماضية من إلقاء محاضرة في دار الكتب الوطنيّة، التي تديرها.
يبدو أنّ صيف هذا العام في تونس سيكون «فلسطينياً» ساخناً. بعد الاحتجاجات التي أدّت قبل أقلّ من شهر إلى إلغاء عرض فيلم «المرأة الخارقة» وبطلته المجنّدة الإسرائيلية غال غادوت، تتواصل المعركة بين أنصار فلسطين وأنصار التطبيع مع الصهاينة حول عرض بوجناح هذه المرّة. وبغضّ النظر عن مآلها، نكتشف في كلّ جولة جديدة مدى صحّة المقولة المنسوبة للحكيم جورج حبش: «الطريق إلى القدس تمرّ بكلّ العواصم العربية».

* صحافي وأحد مؤسّسي «الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني»