إعداد وترجمة: محمد ناصر الدين
«لا أتكلم لغة والديّ، لا أتقاسم معهما أيّاً من الذكريات، لم أرث منهما شيئاً من التاريخ أو الثقافة أو الأمل». فقد جورج بيريك (1936 ــــ 1982) والديه المتحدرين من أصول بولونية في عمر السادسة في أهوال الحرب العالمية الثانية: أبوه المقاتل من أجل فرنسا، وأمه في معسكرات الإعتقال النازية.

لعل هذا الجرح الأول هو خيط أريان الذي سيقودنا في أعمال بيريك كافة. هنا، تتجسد رغبة عميقة في اختراع أسرة من الورق، وبناء علامات مرجعية من الكلمات. سينطلق بيريك في Ellis Island لوصف هذه الجزيرة الصغيرة من نيويورك لتجميع المهاجرين من الحرب الثانية... مكان منذور لاستقبال الموجات البشرية والشتات. كل ما سيغذي كتاباته بعدها هو الخوف من النسيان والرغبة في ايجاد ما قد فقد من قبل. يتحول الواقع عند بيريك إلى لعبة، نوع من الحركة الدائرية والمقفلة مرسومة في كتابهW ou le souvenir d'enfance. التبادل ما بين نص السيرة الذاتية ورواية المغامرة هو الذي سيسمح له بصياغة متخيلة لذكريات اليتم: مواجهة الغياب أولاً، ومن ثم استكشاف امكانيات الكتابة التي يقدمها الغياب. كتاب «الإختفاء» عام ١٩٦٨ سيكون علامة مميزة في مسيرته الكتابية لإخفاء الحرف E الأكثر استعمالاً في اللغة الفرنسية من الكتاب: كتابة ضمن قائمة من المحظورات اللغوية، ألعاب كتابية، كلمات متقاطعة وألعاب شطرنج داخل النص: التاريخ الشخصي المثقوب مجدداً والممتلئ بالنقصان الذي يجب قصه من دون توقف حتى الملل. ليس هناك من كتاب لبيريك يشبه الآخر، من «الأشياء» الى «الحياة: دليل استعمال» فـ «الألفباء» و«أتذكر». يتبدى بيريك في ما كتبه كفلاح يزرع حقولاً عديدة، أربعة تحديداً: السوسيولوجي والأوتوبيوغرافي والروائي واللعبي (من اللعب). كتب ليسدّ ثقوب ذاكرته، ليحك سطح ذاكرته المتشظية للبحث عن حفنة من الذكريات، ليكتشف اللغة في امكاناتها القصوى، ليجد حبكة أو لعبة ما ليخلق عالماً لنفسه. ليس عالماً فقط، بل حياة، حياة بأسرها.


برنار نويل: جورج بيريك، لقد نشرت العديد من الروايات، والنصوص والقصائد، صوّرت فيلمي سينما، أنت أيضاً شغوف بألعاب تركيب الصور (البازل -Puzzle)، والكلمات المتقاطعة، كما أنك عضو في «مجموعة الأوليبو» التي ستوضح لنا نوعية نشاطها بعد قليل. أقول هذا كله ليس من باب التعريف بنشاطاتك فحسب، بل لأنه يتبدى لي في ذلك كله نوع من الخطة المبرمجة. يمكنني القول إنك قد افتتحت جولة في مباراة، يكون فيها الأدب برمته لعبة أثيرة تضع فيها أعمالك بأسرها أو حتى حياتك وتتعامل فيها مع الأدب كلعبة مضحكة وخطيرة في آن معاً. يخيل إلينا عادة في مجال الشعر، أن الأريحية والشغف والمثابرة أمور تكفي: مع جورج بيريك نرى القواعد البيانية تُؤخذ إلى مداها الأقصى، كذلك الصور البلاغية والأسلوبية التي تدخل في لعبة يتداخل فيها الحيوي والخيالي، وكأن تمرين اللغة قد منحك ما يظن الآخرون أنهم يمنحونه للُّغة. في هذا الصدد، لك كتابان بارزان، هما «التلاشي» و«الألفباء» الصادر حديثاً. هل يمكننا القول، بخصوصهما، وبخصوص مجمل أعمالك، إنّك لا تركز في الكتابة إلا على الحرفة، وأنك مدين لهذه الحرفة بكل شيء؟

جورج بيريك: أظن أن الكتابة تحديداً هي حرفة. إنها ليست هبة، بل شيء يجب البحث لإيجاده. لدى الجميع رغبة بقول الأشياء بسهولة، ويمكن أيضاً أن تتوافر الرغبة بتطوير الأفكار. لكن في النهاية، نكتشف أن السهولة والرغبة قد لا تنتجان إلا ما هو ضحل ومسطح، وأن هناك ما يدفعنا للانطلاق للبحث في البلاغة التي لم تعد موجودة. هناك أنقاض بيانية نجد أنفسنا أمامها، كان الأدب وما زال يعمل عليها. بالنسبة إليّ، كان لديّ إحساس بالفراغ، وجربت أن أبنيَ شيئاً من هذا الفراغ، من هذا الإحساس بالمستحيل، عبر اللجوء إلى القواعد والبنى والضوابط البيانية الأكثر عراقة، واستعمال أساليب مثل الآناغرام، والليبوغرام، والباليندروم.

برنار نويل: قد لا تعني هذه الكلمات الأخيرة للقارئ شيئاً، هل لك بإيضاحها أو إعطاء أمثلة؟

جورج بيريك: الباليندروم هي جملة يمكن أن تقرأ بالاتجاهين، من اليمين إلى اليسار وبالعكس. الأمر بالنسبة لجملة واحدة يسير نسبياً، لكنه بالتأكيد أكثر تعقيداً حين يتعلق الأمر بنص من صفحات ست. قد يستغرق ذلك عاماً كاملاً، من أجل خلق نص يحمل قيمة ما. اما الآناغرام فلنأخذ الكلمة التالية مثلاً: اسبارطة Sparte: داخل هذه الكلمة، توجد حروف كلمة ثانية وهي الاحتضار trepas، وكلمة ثالثة هي الرعيان pâtres. إنها طريقة لإعادة ترتيب الأحرف داخل كلمة معينة من أجل خلق كلمة ثانية جديدة. أما الليبوغرام، فهو كتابة نص من دون استخدام أحد الأحرف. إنه لأمر سهل حين يتعلق الموضوع بحرف W ، لكنه أعقد بأشواط حين يتعلق بالفرنسية، بحرف E مثلاً.

برنار نويل: لقد كتبتم كتاب «التلاقي» في 300 صفحة من دون استخدام حرف E، هلا أوضحت لنا وللقارئ ــ الذي ربما لا ينتبه للموضوع دون استعداد مسبق ــ الآلية التي استخدمتها في هذا العمل؟


جورج بيريك: فرضت على نفسي في بداية الكتابة نوعاً من السلوك الصارم. لقد قررت كتابة عدد من الأسطر في الساعة ثم عدداً من الساعات في اليوم، كتبته بنوع من الاحتفالية بحيث كنت أشعر مثل البنّائين، حين يضع أحدهم لَبِنة، ثم يضيف الإسمنت، ثم لَبِنة ثانية وهكذا مع كل حركة يتكامل البناء. كان الكتاب يرتفع تدريجاً وأنا أشق طريقي الصغير بصعوبة وسط جمل ارتفعت بداخلها كل منظومات الحظر والحصار. أتى القص بعدها في الكتاب من تلقاء نفسه. الموضوع نفسه تكرر في كتاب «الألفباء» حيث قصائد تسمى هيتيروغرام، مؤلفة من أحد عشر حرفاً أساسياً، تتبدل الأحرف فيها إحدى عشرة مرة، في إحدى عشرة محاولة... لنحصل على بيت إحدى عشري واحد، كان الأمر يتطلب يوماً كاملاً من العمل على الأحرف التي يسهل تركيب كلمات بواسطتها مثل N أو D، ووقتاً أقل لأحرف قليلة الاستعمال مثل. W, Z, X, K,J لوجود خيارات أقل من الكلمات بهذه الأحرف. أحياناً، كان الأمر يتعلق باحتمال وحيد مثلاً. داخل هذه المنظومة القاسية والمجانية والمازوشية، كتبت ما يمكن اعتباره النصوص الأكثر إثارة. حين يتعلق الأمر بكتابة الشعر بهكذا طريقة، يجب أيضاً على النص المستولد أن يتمتع ببنية داخلية متماسكة. القصائد التي وردت في الكتاب، شكلت بالنسبة إليّ مدخلاً إلى اللاوعي، أقوى بكثير من أي كتابة أوتوماتيكية، أو من أي بحث ينطلق من المعنى. الأمر برمته يتعلق بخلق الكلمات عبر هذا الغربال من المحظور، بحيث يمر فيه فقط ما يجب أن يمر. كان الأمر مهولاً. أذكر حين التقيت بجون اشبري على العشاء في باريس وشرحت له الأمر، أنه قال لي: «إنه لمن الصعب جداً أن تكتب هكذا مع الإلهام».

برنار نويل: غالباً ما تظهر في نتاجك نسختان على الصفحة الواحدة، نسخة معقدة مشغولة بحرفية عالية، وأخرى كأنها أكثر سهولة؟

جورج بيريك: هذا صحيح، بالنسبة إلى النسخة الميسرة، أظن أنه من المنصف أن أبين للقارئ شيئاً من الآلية التي صُنع بها النص. خذ مثلاً كتاب «الألفباء». في المقطع المعنون «تقرحات»، اشتغلت حصراً على حرف C، بحيث أجريت له اربعمئة تبديل. وفي مقطع آخر بعنوان «الختام»، هناك جوكر أو حرف أبيض كما هي الحال في لعبة «السكرابل». وفي مقطع بعنوان «معادن»، شكلت سونيتات من أربعة عشر بيتاً يتكون البيت الواحد فيها من أربع عشرة كلمة. أظن أنّي سأتوقف هنا.

برنارنويل: هل هناك قاعدة في كتاباتك تفرض نفسها؟

جورج بيريك: ليس تماماً. حين كتبت «الدراجة الصغيرة»، كنت أتابع محاضرة رولان بارت في المعهد العالي حول البلاغة، ثم اشتققت نوعاً من الأشكال البلاغية وقررت أن أؤلف معجماً لهذه الأشكال وتحديد مواضعها داخل نص مكتوب بطريقة ميسرة. في كتاب آخر «الرجل الذي ينام»، امتدت الكتابة ما بين جملة لكافكا ومجموعة قصصية لملفيل بعنوان «بارتليبي الكاتب». اختيار الشخصية الثانية في الرواية مثلاً، وصف الأحلام، العمل على هدم الوقت، هي أشياء لا أعرف تماماً كيف بدأت. كذلك، لا أعرف تماماً كيف يعمل النص، لكن يمكنني القول إنّه يشكل برنامجاً متكاملاً. لدي حالياً تسعة عشر مشروعاً، تشكل برنامجاً للعمل للسنوات القادمة، كُتُب كنت قد شرعت بكتابتها منذ سبع سنوات ولم أنته منها بعد، رواية من الخيال العلمي مثلاً. أرغب بأن أكتب روايات مثل جول فيرن، وأن أكتب روايات بوليسية، وأستنفد بالكامل حقل الكتابة.

برنار نويل: لماذا جول فيرن؟

جورج بيريك: ما يذهلني حقاً عند جول فيرن، هو مقدرته على استحضار مقاطع كاملة من القاموس الى الرواية. قدرته على سرد أسماء الأسماك على طول صفحات خمس من دون أن يصيبنا بالملل. خذ مثلاً روايته «أطفال الكابتن غرانت». هناك تعداد كثيف فيها للجغرافيين، والمبشرين الذين طافوا بالبلاد التي يجوبها بطل الرواية، وأسماء مستكشفي الأرض والجبال، كأن الأسماء هي التي تصنع الحكاية، وتمهد للأسطورة بأن تأخذ مداها الأرحب.

برنار نويل: أنت عضو في «مجموعة الأوليبو». ما هي هذه المجموعة؟ وهل تتشكل حصراً من الكتّاب؟ ما هو نشاطها؟ وما هي الإضافة التي قدمَتْها لبرنامجك؟

جورج بيريك: ليست الأوليبو مجموعة للكتاب فقط. الكتاب الأساسيون فيها ثلاثة: ايتالو كالفينو، وهنري ماتيوز وأنا. نشاطها أشبه بتمارين البيانو: نجتمع صباحاً على الفطور، نتبادل المعلومات والأفكار. أمر أشبه بتحضير السلم الموسيقي صبيحة أمسية موسيقية. مثل أوراق لعبة التارو التي تنتج قصصاً، يمكن اعتبار عمل كالفينو «قلعة المصائر المتقاطعة» مستلهماً بامتياز من نشاط المجموعة.

برنار نويل: هل من كلمة أخيرة بخصوص مشروعك أو «برنامجك»؟

جورج بيريك: نهاية، لا أعرف إن كنت أجيد الكلام عما أفعله. ما أعرفه هو أني أفعله، وأخصص له الوقت الكافي والطاقة التي تستوجبه. أعرف أني على طريق الصواب لأني كتبت أكثر من اثني عشر كتاباً في عشر سنوات، يختلف أحدها عن الآخر وتشكل نوعاً من لعبة البازل الذي تتشكل فيه صورة متكاملة. حين نبدأ اللعبة، لا تكون الصورة واضحة. اللعبة اسمها «حياة وأعمال جورج بيريك» ولا أعرف تماماً ماذا تشبه هذه الصورة غير الواضحة: قد تكون صفحة بيضاء، أو نجمة صغيرة في زاوية. أنا مدين بنجمة لميشال بوتور، الذي يشبه الكتابة بالبازل الذي تنقصه قطعة: القطع الموجودة هي كل الكتاب ممن يحيطون بنا ويضيئون طريقنا أو يستثيروننا للكتابة. أما القطعة الناقصة، فهي الأعمال التي نكتبها نحن. إنه نوع من البحث عن الجذور يمرّ عبر الكلمات.

حوار بين جورج بيريك (1936 ــ 1982) وبرنار نويل (1930) نشر في كتاب «جورج بيريك/ برنار نويل»، «منشورات اندريه ديمانش» (مرسيليا ـ ١٩٩٧)
دخل صاحب «الحياة: دليل استعمال» (جائزة ميديسيس ــ 1978) أخيراً مجموعة «مكتبة البلياد» الأدبية المرموقة