«هذا الجسدُ الذي ينوءُ بحَمْلِ الأفكارِ ويتحَمَّلُهاإن لم يكن له لون
فإنَّ عمقَ تلك الأفكار
سيُقتطَع لحظةَ الغوصِ في غورِها»
(لوه يي خي)



«بعد وفاة يي خي، أرسل لي أحد الأصدقاء خطاباً يقول فيه إن خاي زي اختار الموت، وغادرنا بهدوء منسلاً من حياتنا كلياً، لكن يي خي لم يختر الموت، لذلك ظل يعيش بيننا إلى الآن بشكلٍ غامضٍ ما.

بالطبع هذه طريقة جميلة لوصف رحيله، إلَّا أنه بالنسبة لي، فقد رحل يي خي، رغم أنني أحلم به أحياناً. ولَكَم كانت الحقيقة مؤلمة والحزنُ يأسرنا حينما حملنا نعشَه مع أصدقائنا في اليوم العاشر من شهر يوليو عام 1989 إلى بوابة المحرقة في باو دا شان في بكين».
هكذا قال صديقه الشاعر الصيني شي تشوان في مقالٍ كتبه عن صديقه الراحل تخليداً لذكراه. وكان خاي زي المنتحر ولُوه يي خي، وشي تشوان ثلاثةَ أصدقاءٍ عُرِفُوا بـ «شعراء جامعة بكين الثلاثة» أو «المستكشفون الثلاثة» (صدرت مختارات من شعر خاي زي عن «دار النسيم» في القاهرة بعنوان «أحتضنُ نمراً أبيضَ وأعبرُ المحيط» تولت ترجمتها كاتبة هذه السطور).
وُلِد الشاعر لُوَه يي خي في السادس من شباط (فبراير) 1961 في بكين، والتحق بجامعة بكين، قسم اللغة الصينية خريف عام 1979، ثم عمل محرراً عام 1973 في «أكتوبر» إحدى المجلات الأدبية المعروفة التي كانت تصدر آنذاك، وبدأ في كتابة الشعر والدراسات النقدية عام 1983. وفي 14 أيار (مايو) عام 1987، أصيب لُوَه يي خي بنزيف دماغي ودخل في غيبوبة لمدة 18 يوماً، وتوفى في 31 من أيار عام 1989، وكان عمره 28 عاماً، أي بعد نحو 70 يوماً من وفاة خاي زي منتحراً بإلقاء نفسه أمام قطار. كان لُوَه يي خي غزيرَ الإنتاج، لعلَّ أهم وأبرز أعماله الشعرية ديوان «دمُ العالم»، الذي صدر بعد وفاته بعام. هنا نترجم قصيدة منه إلى جانب قصائد أخرى تمهيداً لترجمة أعماله في ما بعد.

■ ■ ■

العسل - إلى الشمس والسائل اللامع

1

ما إن ارتشفَ الجيشُ العسل
حتى غَرِق في الحالِ في نوم ٍعميق
وصراخُ مسقطِ رأسي يخترقُ عويلَ الطيور
والعنبُ الناضجُ يمتزج
بقطراتِ الماءِ المتجمِّدَة
ويسفع الخوذةُ الصلبةَ اللامعة.

2

حيتان
خلفَ تلك النافذة
ينبثقُ سائلٌ أبيضُ هائل
تُراقِب في صمت
ثم تختفي ظهورُها التي تنوءُ بحَمْلِ الضغطِ كما الراية شيئاً فشيئاً.

3

الليلُ والجُزُرُ ترتجُ في تدفقِ السائل
والزهورُ تتفتحُ مُثمرة.

4

أثناءُ الحالةِ حين يشتدُّ سطوعُ النورِ أمامَك
ما سيجعلكَ ترتجف، لا أن تفقدَ طريقَك
بل أن تتخطَّى كثافَتَه.

الصحراءُ إنسانٌ منيرٌ لوَّحته الشمسُ وصُيَّرَ نهاراً.

5

أنتَ مطرُ غَضَبٍ
أنتَ مطرُ غَضَبٍ
تشبَّعَ جسدُكَ بالتجربة

أنتَ حُلْمٌ.. حُلْمٌ جميل
أنتَ حُلْمٌ
والحُلْمُ جميل.

6

مُدّْ بصركَ وراقبْ من بعيدٍ السماءَ الهائلةَ وقتَ المغيب
تُطلُّ على شاطئِ المحيطِ الواقعِ على خطوطِ العرضِ المتوسِّطَة
حين يغمرُكَ الشفق
في وحدةٍ أَلِقةٍ مُلغِزَة.

7

تجمَّعَ الرمادُ على الأرضِ البريَّةِ المنبسطة
وغطَّى غبارٌ أحمرُ خالصٌ فوَّهةَ البركان.

8

حين عبرَتَ العصورَ القديمة
ظللَتَ أَرِقاً إلى الصباح
حين يُحَطُّ من قَدْرِكَ وتُهان
أعرْ أذناً صمَّاء
وليكن حُكمُك حصيفاً
ولا تستغلْ مصائبَ الناسِ لصالحِك
لا تصبّْ جامَ غضبِكَ على أحبائِك.

9

لا بد أن تثقَ بهذا الصَّوتِ في قلبِك
صوتِ هذا الأرز، صوتِ مِنجمِ الفحمِ هذا
وأسرعْ خطاك وسرْ في دربِ بقائِك
وسوف يرجُّكَ هذا الصَّوت
فلتكن قدماك إِذَنْ ثابتتين.

10

لا بد أن تمشي وحيداً
بِفَمٍ صامتٍ وأُذُنٍ صمَّاء
وحين تمشي طويلاً في وهجِ الشمس
ليكن ما يجيشُ في صدرك
حُبَّاً عظيماً.

11

مشاعركُم عميقة، ونبضُ قلوبكِم قليلٌ متباعد
أنتم صامتون
تعينكُم أنفاسكُم على سماعِ وفهمِ بعضكِم البعض
تتحدثون عن الصحراءِ الثريَّةِ، عن ضوءِ الشمسِ الوافر
عن الجفافِ التامِ وعن حصصِ السُكَّرِ الكاملة
والأماكنِ الظَّليلةِ الشحيحة
ومنابعِ الماءِ الناضبة
وعن الصبيَّاتِ الفَرِحَات.

12

العنبُ الحلوُ، العنبُ الحارُّ، العنبُ مرهفُ المشاعر
أنتَ الطعامُ المندفعُ راكضاً على الأرض
هذا العنبُ حياتُك.

13

هذا السائلُ الأصفرُ النقي
يتشكَّلُ في الامتداد
مفعماً بأملٍ، بأرضٍ ضائعةٍ وأصداء
ويعكسُ بغموضٍ تضحيةً وكمالاً
العسلُ هو السائلُ الغامضُ الوحيد
الذي اشتركت البشريةُ مع النباتاتِ والحيوانات
في خلْقِه.

14

خضَّلَ الماءُ الأرض
وجلس الخالدُ في قلبِ العالم
أعلى الأرض، أعلى تلك الأرض
على هذا الشاطئ
في غَمرِ هذه العتمةِ والنورِ المهيبان

فإن أردتَ أن تطوِّعَ قصيدتك: سِرْ، سِر، سِر، لا تتوقف.

■ ■ ■

المنزل ـــ إلى ابن وابنة

النارُ المُتَّقِدَةُ انبثقت على ظهورِ الطيورِ واليومُ مرَّةً تلو الأخرى
جعلت منزلي صلداً
جرَّدتني من جمجمتي
جرَّدتني من أُذني وغمرَت جسدي
وما حولي مُوصَد
واليومُ مرَّةً أخرى دخلت أحلامي
هي وحيدةٌ وخالدة

حَلُمتُ أنِّي أتأملُ الطقسَ
يعبرُ المنزل
وثمة أسدٌ في جوفِ البرقِ يجرُّ كتاباً ذهبياً وحلَّ اللغز
وعلى جسده حممٌ بركانية
كلَّما غدا الطقسُ صحواً والمحيطُ صافياً
فإنَّ سحباً ورديَّةً تعبرُ
قمةَ ذلك المنزلِ والإبداعَ الذي صنعته
تتجاوزُ الأسدَ تتخطاه إلى المحيط
وهذا الذي لا يخشى الموت
لا بد أن يتغلبَ على جسارتِه بالحياة.
جزء من قصيدة الشاعر الطويلة «المنزل ــ إلى ابن وابنه» من ديوانه «دمُ العالم»

النمرُ الأسود

وسط الريح رأيتُ مخلبين
كان نمراً أسودُ ينمو في الأرض
بمخلبين مغروزين في الأرض
قابضاً على الترابِ المتطايرِ، هو جَذرُ شجرةٍ هو
نمرٌ أسودُ والتربةُ الرطبة
آخرُ ما يلمسُه هو نمرٌ أسودُ شديدُ السواد
هو أمانٌ مبَهم
موثَّقٌ حولَ العنف
هو عينان تتفرسان في الأسلحةِ البلوريةِ الشفَّافة
والانعكاساتُ الشريرة
كشفته وسط الأرض
وثمة الكثيرُ من التجهيزاتِ المصوَّبةِ إليه
وسلامُنا البرئُ بلا أساسٍ راسخ
هو نمرٌ أسود
هي أرضٌ مدفونةٌ في ظلِّ نمرٍ أسودَ ثم يُلجِمُ الظِّلُّ
الظِّلَّ
والسماءُ ساحةٌ للأشغالِ الشَّاقة
اصطدَمتُ بالرعدِ حولي
ابتلعتُ الفراغَ التهمتُ الفراغ
التهمتُ مِنَجم فحمٍ في جوفِ الفراغ
وبردٌ قارسٌ وضوءٌ شاحبٌ باردٌ مغروزٌ في ظهري
وخيوطُ شمسٍ لافحةٍ وخيوطُ شمسٍ لاذعة
وانتقامُ الأرض
مثل حيوانٍ مفترسٍ يوقِعُ بأثرهِ في نفسِ المرءِ هو نمرٌ أسود
هو جوفُ نمرٍ أُخزِّنُ فيه الطعامَ وبِرَكُ دماء
هو فؤادي
الصامت.

■ ■ ■

الروح

سماءُ المدينةِ العتيقة
زرقاءُ هائلةٌ وعامرة
مثلَ آلهةٍ، مثلَ جسدٍ مشقوق
مثلَ بابٍ آمن
تحملُ كلَّ ألمي حين أتأملُها

كلُّ مَن أحبُّهم منهمكون في أعمالِهم، أو يتزوجون
يغرقون، يبدعون
مدفونون في رمادٍ دافئ
ليس ثمةَ إلَّا وابلُ مطرٍ
سيجعلُ طريقَ رحلتِهم البعيدةِ يتلاشى

مَن بإمكانِه أن يحصي الأحياءَ ويختبرُ الحياةَ المزدهرة
مَن بإمكانِه أن يكون مثلنا
مُسَجَّى على الترابِ الممتدِ القاحل
وآثارُ العجلاتِ تطأه رائحةً غادية

لا عشبَ في الأنحاء
لا عشبَ في الأسفلِ ولا أصواتَ نبضٍ
لا غيرَ قلبِكَ يقرعُ الأرض
وتشعرُ بجسدِكَ مُرتجَّاً
وريحٌ هوجاء تعصفُ بالجدرانِ وإفريزِ المنزل

أرى نفسي أترنحُ على أوتارِ الفؤاد
لهذا أسقطُ عمودياً وقتاً طويلاً
لهذا أحترقُ تماماً

أرى
تلك السماءَ البلوريةَ كالثلج
تلك السماءَ الزرقاءَ الشاسعة
وقبالةَ الشمس
ثمة أجسادٌ بلونين أبيضَ وأسود
تُحلِّقُ برحابةٍ
تفرشُ أجنحَتَها وتُحلِّقُ لأعلى.