يسدّ التوجيه العلمي ثغرة في اختيار الاختصاص الجامعي في دول العالم، بمعزل عن خصوصيات كل بلد وسماته الثقافية ومساراته الإنتاجية. إلّا أنّ التوجيه نوعان: إرشاد غير مباشر ينادي به عالم النفس الأميركي كارل روجرز، وتقوم فلسفته على إعانة الطالب على اتخاذ قراره، ربطاً بمقاييس منطقيّة، لا التزاماً بتفضيلات أي شخص آخر، أي إنّ المرشد لا يقدم نصيحة مباشرة، بل يعلّم الطالب كيف يأخذ القرار ويتحرى مصادر المعرفة وفقاً لحاجاته ورغباته.
والنوع الثاني هو التوجيه المباشر الذي يستند فيه الموجّه إلى سلطة معنوية معرفية تمكنه من فرض أفكاره على الطالب المسترشد، وبذلك نكون قد استبدلنا بالسلطة الأبوية التي كانت تُسقط على الأولاد تعليماتها سلطةً أخرى فحسب.

الجامعات تتبع حركة السوق ولا تقوده

في لبنان، نجد قصوراً في التوجيه العلمي، على الرغم من توافر فرص التعلّم والإقبال عليه، وعلى الرغم من بعض التجارب والمبادرات المشجعة لمؤسّسات تسعى إلى ردم الهوّة بين مقدرات الطالب الفعلية وما يدركه ويعرفه عنها، من خلال برامج توجيه متقدّمة نسبيّاً (المركز الإسلامي للتوجيه والتعليم العالي نموذجاً). لهذا القصور اعتبارات عدة منها:
ـ عدم إيلاء وزارة التربية والوزراء الذين تعاقبوا عليها الأهمية لإرشاد الطلاب وتوجيههم. فقسم الإرشاد في الوزارة يضم عدداً محدوداً من «الموظفين» من غير ذوي الاختصاص.
ـ انهماك إدارات المدارس الرسمية بما تعتبره «الأولويات»، وبالتالي لا يحتل توجيه الطلاب لاختيار مهنة المستقبل حيزاً من اهتماماتها، فيما قد لا يرى كثيرون من مديري المدارس الخاصة حاجة لمتابعة هذا الشأن، لأن الطالب عندما يصبح مرشحاً للانتقال إلى الجامعة، لا يعود زبوناً محتملاً، وبالتالي ليس هناك من داعٍ لبذل الجهد وإنفاق المال واستهلاك الوقت في توجيه لن يترجم أرقاماً ترفع من أرباح المدرسة. ومن هنا، نجد قلة من المدارس الرسمية والخاصة تخصص حصصاً للتوجيه ضمن برامجها التعليمية.
ـ تأثيرات الإعلام والوسائط الإلكترونية من ترميز وترويج لشخصيات سلكت مساراً علميا ومهنياً، وكذلك الإعلانات عن الاختصاصات في هذه الجامعة أو تلك التي تؤكد أن متخرجيها مضمونو فرص العمل، وأخرى ترسم الصورة الأجمل لمستقبل طلابها، بما يصورها خشبة إنقاذ في بلد تتفشى البطالة بين شبابه، فضلاً عن التسويق لاتفاقات بين الجامعات ومديري بعض المدارس لفتح أبوابها لمرتادي جامعة بعينها للترويج لها في الصفوف دون سواها.
ـ توجه الجامعات بأغلبها لفتح اختصاصات تتبع ما تفترضه حركة السوق بدلاً من لعب الدور المتوخى للجامعات في كل بلد متقدم، وهو قيادة حركة سوق العمل وتوجيهها. بمعنى آخر، تتنافس الجامعات على فتح الاختصاصات ربطاً بافتراضاتها عن إقبال الطلاب على هذه الاختصاصات دون سواها، غير آبهة للترخيص لاختصاصات تضيف مجالات إلى سوق العمل، وتسهم في توطيد العلوم الحديثة بشقيها التطبيقي والإنساني. فالسرعة الهائلة لتطور العلوم عالمياً تنتج اختصاصات جديدة لا نكاد نراها في جامعاتنا، خشية المخاطرة بفتح صفوف غير مكتملة العدد في مرحلة أولى، في وقت تسعى فيه الجامعات إلى فتح صفوف مضمونة الربحية والإقبال.
ـ الدولة اللبنانية، ممثلة بوزارة العمل وبالمؤسسة الوطنية للاستخدام ومراكزالبحوث الرسمية المختلفة، لا تُجري دراسات مسحية لسوق العمل كما تفعل كل المؤسسات المشابهة في الدول المتقدمة. فكيف يمكن رسم مخطط توجيهي لحاجات البلد لعدد من السنين من دون أن تتوافر دراسة مفصلة تعرض لأنواع المهن المتوافرة وعددها، ونسب النقص والفائض في كل منها، والحاجة المتوقعة لها ضمن فترة زمنية محددة، بحيث تحصل حينها عملية توجيه الجامعات لفتح اختصاصات وإغلاق أخرى، وصولاً إلى توازن ما بين المعروض والمطلوب.

مداميك التوجيه المهني

تعقد الجامعات اتفاقات
مع مدارس للترويج
لاختصاصاتها في صفوفها


إذا آمنا مواطنين ودولة بأن للطالب حق اختيار اختصاصه بمفرده وفق معايير عقلية ومنطقية، وإذا أدركنا أن المطلوب إطلاقه من أسر آراء العائلة، الإعلانات، أوهام السوق، تصبح مقاربة الاختصاصات علمية بحتة تقوم على مداميك عدة:
ـ استكشاف الميول عبر وسائل فنية واختبارات محددة، نفضل منها اختبار الباحث الأميركي جون هولاند للشخصية المهنية، وهو اختبار يحوي مجموعة من الأسئلة غير المباشرة التي تتيح إجابة الطالب عنها بموضوعية، وللموجه أن يفسر ويحلل الإجابات توصلاً إلى تحديد وحصر أنواع المهن التي تنسجم مع دواخل الطالب، وقد يكون الطالب مدركاً لبعضها وقد يستهجن بعضها الآخر.
ـ معرفة الميل المهني الكامن لدى الطالب لا تكفي لسبر أغواره، حيث إنني قد أميل إلى مهنة (كما قد يظهر اختبار هولاند)، ولكن بنية شخصيتي وطباعي الذاتية لا تنسجم مع هذه المهنة. كأن يأتي العمل الاجتماعي (social work) نتيجة لاختبار ميول فلان، فيما يعرف هو عن نفسه ويعرف كل من حوله أنه ليس ميالاً للاختلاط بالناس أساساً، فكيف تحل هذه الإشكالية؟ الجواب يأتي عبر اختبار آخر يقيس نمط شخصية الطالب بحيث يختار من المهن التي أظهرها له هولاند ما ينسجم ويتكامل مع سماته الشخصية. واختبار قياس أنماط الشخصية (MBTI)، وضعته السيدتان مايرز وبريجز بهدف رصد معالم شخصية الإنسان وتحديد خاصياته.
ـ البعد الثالث الذي يستحق الوقوف عنده هو القابليات الذكائية لدى كل فرد. والمقصود هنا تهاوي الفكرة السائدة أن لكل البشر نوعاً واحداً من الذكاء يحملونه ويتمايز بعضهم عن بعض «بالنسبة» أو «الكم» التي يمتلكهما كل منهم، حيث أدى طرح الباحث الأميركي هوارد غاردنر لنظريته حول تعدد أنواع الذكاءات (Multiple intelligence) إلى ثورة على المفهوم السابق القائم على وحدة نوع الذكاء. وخلاصة ما أتى به غاردنر تختصره الصورة عن مسابقة لتسلق الشجرة يتنافس فيها قرد وسمكة وفيل وسلحفاة، أي إن من لا تتكافأ مؤهلاتهم لا يصح تكليفهم المهمات نفسها أو افتراض القدرة لديهم على أدائها. وأعلن غاردنر إثر دراسته أن «الذكاءات أنواع متعددة نحملها عموماً، ولكن كلّ منا قد يتميز بقوة في هذا الذكاء دون سواه؛ وبالتالي، ليس ثمة من أغبياء بالمطلق في الحياة، بل أذكياء يعجز الناس عن رصد تميزهم الذكائي».
ـ معرفة حاجات سوق العمل ومدى توافر الفرص فيه وفي أي المجالات تتركز تسهم في حسن اختيار الطالب لاختصاصه.
- تحلي الجامعات بشجاعة فتح اختصاصات جديدة رغم قلة المقبلين عليها ومراعاة الوضع الاقتصادي من خلال وضع أقساط معتدلة وموضوعية يستطيع الطالب تحمّلها. فالطالب، وإن توافرت لديه صفات التمايز العلمي في اختصاص معين، قد لا يستطيع التسجيل في الجامعة، لأن تلك التي يتوافر فيها اختصاصه تستوفي أقساطاً كبيرة، ما سيؤدي إلى الانتساب إلى اختصاص لا يتلاءم مع قابلياته، أو ترك الدراسة الجامعية في حالات أخرى، هذا فضلاً عن أنّه قد يقصد اختصاصاً، فلا يجد مكاناً يدرسه فيه، لأن الجامعات لم ترَ في فتحه جدوى اقتصادية لها.
يستحق أولادنا مساندتهم بالمعلومات تسهيلاً لسبل اكتشاف الذات وقياس المقدرات، والحماية من الوقوع ضحية لما يسمى «التسرب الجامعي» الذي قد يؤدي بالطالب إلى خسارة عام جامعي أو أكثر من عمره نتيجة سوء الاختيار؛ وللتسرب الجامعي حديث آخر يطول.

*أستاذ محاضر في كلية التربية في الجامعة اللبنانية الدولية

* للمشاركة في صفحة «تعليم» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]