في روايته «لا تركضي وراء الذئاب يا عزيزتي» (دار الرافدين ـــ 2017)، يفتح علي بدر عدسة كاميرته مسلطاً الضوء على مفهوم الثورة وأخبار الثوريين، الموضوع القديم والحديث. يفكك الروائي العراقي مفهوم هذه الثورة، ويوثق لأخبارها المحزنة في ذاكرة العراقيين، ومن عاصروا الثوريين، ليقتفي آثارهم ومصائرهم. يتجاوز كون السياسة موضوعاً جافاً للسرد الأدبي بالتفافه على الفكرة ليناقش قضية الإنسان، نتاجها وانعكاساتها.بطلب من وكالة الأنباء «ام أي سي»، يكلَّف الراوي لتقصي أوضاع مجموعة من الثوريين الماركسيين أو التروتسكيين الذين غادروا بغداد في سبعينيات القرن الماضي والتحقوا بالثورة العالمية ضد المصالح الغربية – الامبريالية. يتدرج في الإضاءة على ثورة الأهوار المغيبة والمسحوقة التي قامت في منطقة الجنوب العراقية زمن حكم صدام، قبل قمعها وتصفيتها. أما من تبقى من أفرادها، فقد توزعوا في أصقاع الأرض، ومنهم مَن توجه إلى أديس أبابا حيث الأرض البكر، الحلم، النساء العاريات، الكوبرا والتمساح إبان حكم العقيد مغنيستو الذي أطاح بالإمبراطور هيلاسيلاسي، زمن انتصار الشيوعية فيها. هكذا، ينتقل مكان السرد والتطورات الدرامية إلى هذه البقعة لمتابعة سير الشخصيات.

تلك الأحداث الدامية والثورة المهيضة وما رافقها من خراب في ذاك الزمن، أسهمت الإدارة ذاتها إلى جانب السلطات المحلية، في وأدها وإطفاء جمرها الملتهب. إذ دار الزمان وانقلبت الأدوار، وصارت الإمبريالية اليوم تبحث عن الثوار القدامى لتحارب بهم الأنظمة بعدما ساعدت قديماً الأنظمة للقضاء عليهم. تفتش في أوراقها القديمة عمن يمكن استخدامه وتجنيده في برامجها: «الأمريكان أطاحوا بالشيوعيين لمصلحة البعثيين واليوم أطاحوا بالبعثيين بمساعدة الشيوعيين». والنتيجة «مهاجرون شيوعيون قديماً ومهاجرون بعثيون حديثاً وهم معاً في أميركا». وما فوضى الجنس والإدمان إلا تلك الهاوية التي انحدروا إليها بأبعادها النفسية والسياسية.
لطالما كانت الأفكار الثورية والأعمال البطولية باستلهام جموح الهدف النبيل، حلماً يراود كثيرين، ومصدر افتتان لهم على اختلاف فئاتهم العمرية، وتباين توجهاتهم الفكرية. فالصورة الجذابة للثورة الطهرانية والفاضلة، يتعالى وهجهها في أحلام الروايات وأفلام السينما، بشرط أن لا تؤدي بهم إلى الموت.
لكن الراوي منذ البداية يتنصل من صفات البطولة فيها، هو المهاجر والهارب من القمع وتكميم الأفواه يدعي انسلاخه عن تاريخه وأفكاره وانتماءاته الايديولوجية وانسجامه مع جنسيته الجديدة وعائلته الأميركية وعمله الصحافي الذي ازدهر وتطور نتيجة حياديته واطلاعه على الكثير من خصوصيات العالم الثالث الذي أتى منه حيث الكوارث والحروب مصدر رزق وسعادة لأبطال الميديا لما فيها من اكشن وإبهار للمتلقي في رصدهم للفظاعات التي ترتكب بعيداً عنه.

يتدرج في الإضاءة على ثورة الأهوار المغيبة والمسحوقة
ورغم قناعاته الماركسية ومنظومته الأيديولوجية وديكتاتورية البروليتاريا وانحيازه للذود عن المظلومين والعدالة الاجتماعية، إلا أنّ عمله بالوكالة محايد جداً كمحلل سياسي لشؤون الشرق الأوسط. ورغم محاولته الانسلاخ عن جلده وتغيير اسمه وزواجه بأميركية وإنجابه أولاداً «أميركيين» يأكلون الهمبرغر ولا يعرفون من البلاد التي أتى أبوهم منها إلا القصص الخيالية عن مصباح علاء الدين والسندباد البحري، فإن معاناته مزدوجة. هو ممزق بين واقع ناعم وهانئ، وذاكرته المعطوبة بأهوال المآسي التي مر بها. زوجته وأولاده نموذج للاستهلاك الأميركي الذي لا يهمه سوى التمتع بالمكاسب المادية، أياً كان مصدرها. فلسفة تتلخّص في «الحقيقة هي التي تخدم مصلحتي» حسب تعبير زوجته التي جل ما يعنيها من عمله ليس مصداقيته أو معرفته أو نظرته الثاقبة، بل ما تحصل عليه من دولارات. ولذا، فالصراع كبير في داخله، بخاصة عندما يحق لابنه أن يقاطع سماعه لأخبار الموت والدمار في بلده البعيد، من أجل شراء ملابس لرياضته الأثيرة. وما وجود عشيقة له وترحيبه بمهمة السفر الجديدة، إلا تعبير عن امتعاض وعدم رضى عن طريقة عيشه وتمرد على شكل هذه الحياة رغم السلام الظاهري فيها.
مكابدات وهموم يعبرها علي بدر في تفكيكه لبذور نشوء الثورات، متسائلاً عن الدافع المحرك للجمهور وخروجه للمجابهة: هل هو الصراع الطبقي وتباين مستويات المعيشة؟ (يستشهد بطرافة بالثورة الفرنسية: «لا أتخيل أن كل الفرنسيين قد قرأوا كتاب «العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو وخرجوا للثورة بعدها») هل هو ضغط الاستبداد وأهمية التساؤل عن أجيال أهدرت عمرها وشبابها بالثورات والانقلابات حيث نكون أمام نموذجين: نسخة بن لادن للثورة بلا أحلام كبيرة يردنا إلى عالم ما قبل العالم، والنموذج الآخر الذي يأخذنا إلى عالم لم يولد بعد وهو في ذلك يعيدنا إلى الحاضر والواقع الجديد؟ فالقوى التي نريد أن نقيم عليها ثورة لا مكان لها. القوى المستغلة والظالمة تسبح في الهواء ومتغلغلة في كل شيء، ولا مكان محدداً لها لنشير إليها. لماذا انتعشت البلدان التي لم تحدث فيها ثورة بينما تهاوت البلدان التي حدثت فيها ثورات وسقطت إلى الحضيض؟ وكيف اضمحلت فكرة الثورات، ولم يعد هناك أنبياء للثورة؟ إذ لا أحد يخترع لنا يوتوبيا لنركض وراءه.
ربما أراد لنا علي بدر أن لا نركض وراء الوهم الذي يباع لنا بأكثر من قناع أو ربما لإعادة النظر في مسلمات أخذت شكلاً أصولياً في وعينا وثقافتنا حول مفاهيم مكرسة بعد الصدمات المتتابعة التي عشناها وما زلنا نعيشها.