يوجد في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عمال غير نظاميين، أي عمال وعاملات غير مصرّح عنهم لدى صندوق الضمان نفسه، ولا يستفيدون من الحماية (ولو الهشّة) التي يوفّرها، ولا يخضعون لأحكام قانون العمل. تطلق إدارة الصندوق على هؤلاء تسمية «عمال الفاتورة» أو «عمال العتالة». والمقصود بهذه "التسميات" أن الضمان تعاقد مع أفرادٍ يقدّمون له خدمات معيّنة لا تنطبق عليها شروط الإخضاع المنصوص عليها في الفقرة (أ) من البند أولاً من المادة التاسعة من قانون الضمان، وبالتالي ليس مفروضاً على الصندوق التصريح عنهم أو دفع رسوم اشتراكاتهم أو إفادتهم من تقديماته. ولكن في الواقع، يؤدي معظم العمّال غير النظاميين في صندوق الضمان وظائف ملحوظة في الملاك.
المكتومون في الضمان
تسمية «عمّال الفاتورة» ظهرت في عام 2004، كشكل من أشكال التوظيف في الصندوق، وذلك بعدما أقرّ مجلس النواب قانون الموازنة العامة، وفيه المادة 54، التي فرضت على المؤسسات العامة المستقلّة، باستثناء مصرف لبنان، الامتناع عن التوظيف إلا بقرار من مجلس الوزراء، وعبر مباريات في مجلس الخدمة المدنية. وعلى الرغم من أن صندوق الضمان لا يخضع إلا لقانون إنشائه، وبالتالي لا يمكن أن يُلغى بمادة في قانون الموازنة، إلا أنه خضع لهذا الأمر وبدأ يبحث عن أشكال أخرى لسدّ النزف في موارده البشرية.
عملياً، اعتمدت إدارة الضمان طريقة للتوظيف لا تجبرها على انتظار قرارات مجلس الوزراء ولا الخضوع لآليات المباريات في مجلس الخدمة المدنية. فكانت عقود مع «عمّال العتالة» أو «عمّال الفاتورة». خصّص لكل مديرية في الصندوق سلفة مالية ينفقها المدير لتسديد كلفة «أعمال العتالة». المدير، أو من يمون عليه، كان «يختار» الشخص الذي يحتاج إليه للقيام بأعمال «العتالة» ثم يسدّد له نقداً أجره وبصورة ثابتة ومتواصلة. وقبل الزيادة الأخيرة التي طرأت على الحدّ الأدنى للأجور، كانت «يوميّة» هؤلاء تبلغ 25 ألف ليرة، ثم اقترح بعض أعضاء مجلس الإدارة رفعها إلى 30 ألف ليرة بعد ارتفاع الحدّ الأدنى للأجور. وفرضت إدارة الضمان شروطاً على «عمال الفاتورة»، منها أن لا ينجم عن عملهم في الصندوق أي حقوق وظيفية، لا بصفة أجير ولا بصفة أجير مياوم ولا بأي صفة أخرى، بل كانوا يتقاضون أجر اليوم الذي يحضرون فيه إلى العمل فقط.
أقرّ المدير الإداري في الصندوق بوجود 94 مستخدماً يعملون بالفاتورة

في هذا السياق، ارتفع عدد «عمال الفاتورة» في الضمان الى أكثر من 115 عاملاً، معظمهم يقومون بأعمال إدارية ومكتبية تصبّ في صلب عمل الصندوق، سواء لجهة علاقاته مع الأطراف الخارجيين من أطباء ومختبرات ومستشفيات، أو لجهة علاقاته مع المضمونين وأصحاب الحقوق.

التوظيف على حدّ السكين
ظلّت أصوات «عمال الفاتورة» في صندوق الضمان مكتومة، كما في حالات الزبائنية السياسية الأخرى. فقد كان بإمكان أي مرجعية سياسية أو مدير عام أو رئيس وعضو في مجلس الإدارة أو رئيس وعضو في اللجنة الفنية، أو مدير فئة ثانية في الضمان، أن يوظّف عاملاً بالفاتورة أو أن يقيله. وبالتالي كان حدّ السكّين على رقاب العاملين الذين لم يجرؤوا على المطالبة علناً بأحقيتهم في الاستفادة من تقديمات الضمان، مثلهم مثل أي أجير في أي مؤسسة أخرى عامة أو مستقلة أو خاصة. الأنكى من ذلك، أن ممثلي العمال في مجلس إدارة الضمان كانوا يعلمون تفاصيل هذا الوضع، فيما كانت نقابة الضمان تنام في عسل الأحزاب المسيطرة على الصندوق.
المفارقة أن عضو مجلس إدارة الصندوق مهدي سليمان، وهو أحد ممثلي أصحاب العمل وليس العمال، هو من تطوّع لتقديم شكوى عن العمال «غير المصرّح عنهم» أمام مديرية التفتيش في الصندوق. أما مناسبة الشكوى التي قدّمها سليمان، فهي تنقسم إلى شقين؛ الأول هو أن لدى سليمان مصلحة شخصية تقضي بتثبيت ابنه في الضمان وهو يعمل «بالفاتورة». أما الشق الثاني فهو يتعلق برغبة كبيرة لدى وزير الوصاية على الصندوق، وزير العمل سجعان قزّي ومسؤولي الصندوق على اختلاف مواقعهم، في توسيع رقعة التوظيفات. ففي الفترة الأخيرة، كانت إدارة الصندوق قد وافقت على تعيين الدفعة الأخيرة من الناجحين في مباريات فئة سادسة وعددهم 83 شخصاً؛ بينهم أكثر من 50 من الطائفة الشيعية، وذلك قبل أن تنتهي مدّة المباريات بأيام. وبالتالي كان يجب إيجاد توازن طائفي في التوظيفات من خلال توسيع أعداد عمال الفاتورة لتغطّي التوازن المطلوب، إذ لا يمكن تغطية التوازن من خلال آلية التوظيف المنصوص عليها في المادة 54 التي تتطلب قراراً من مجلس الوزراء، وهو لا ينعقد حالياً، ثم إن مباريات في مجلس الخدمة المدنية قد لا تكون مضمونة النتائج.
إقرار الضمان
شكوى سليمان سلكت مسارها الطبيعي. جرى تكليف المفتش الأول أنس شبّو بإجراء تحقيق عن عمّال الفاتورة في الضمان والتحقق من صفتهم هذه وإجراء المقتضى وفق نتائج التفتيش. تعامل شبّو مع إدارة الضمان على أنها صاحب عمل مثلها مثل أي مؤسسة عامة أو خاصة لديها أجراء ومستخدمون. عملية التفتيش استغرقت أكثر من 35 ساعة، أي أكثر من 4 أيام، وأدّت إلى انتزاع إقرار من المدير الإداري في صندوق الضمان بوجود 94 شخصاً يعملون بالفاتورة استعين بهم «لتغطية النقص الحاصل في الموارد البشرية على مستوى الفئتين «ف 7 أ» و«ف 7 ب» من أجل انتظام عمل الصندوق، وقد تم تشغيل هؤلاء وتوزيعهم على جميع مكاتب الصندوق حسب الحاجة» كما ورد في التقرير التمهيدي لشبّو.
التحقيق في القيود الإدارية والمحاسبية أظهر لشبّو أن «عمال الفاتورة» يقومون بأعمال إدارية تدخل بطبيعتها ضمن النشاط الأساسي للصندوق مثل أعمال تصفية المعاملات وإدخال المعلومات إلى الكومبيوتر والاستعلامات ومعالجة مراجعات المضمونين وسواها. وهذه الأعمال تتسم بطابع الثبات والاستمرار وليست عابرة أو طارئة أومؤقتة أو بديلة، وهي كانت تتم ضمن أوقات الدوام الرسمي وتحت مراقبة وإشراف المسؤولين في الصندوق ولحسابه، فيما تدفع أجورهم ورواتبهم من الموازنة الإدارية للصندوق من خلال المندوب الإداري أو من سلفة مصروفة لأحد مستخدمي الصندوق، وأنها في معظم الحالات ثابتة في المحاسبة الإدارية ولا تتغير طريقة دفعها أو آلية تسديدها.
وخلص شبّو إلى أن علاقة الاستخدام متوافرة لدى هؤلاء العمال، ومبنية على «العمل والأجر والتبعية» وذلك بالاستناد إلى الفقرة (أ) من المادة 624 من قانون الموجبات والعقود، وبالتالي يقتضي «إخضاعهم للضمان والتصريح عنهم بالتاريخ الذي باشروا العمل فيه سنداً إلى أحكام الفقرة (أ) من البند أولاً من المادة التاسعة في قانون الضمان، وتبعاً لذلك يقتضي اعتبارهم «أجراء مياومين» لأن أجورهم تحتسب على أساس أيام العمل الفعلية.
وخلص شبّو إلى اعتبار تقريره تمهيدياً في انتظار استكمال إجراءات المراقبة والأساسية بتقرير أو تقارير لاحقة.





الثقة المتهاوية بالضمان الاجتماعي
على مدى خمسة عقود، حافظ الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على مجموعة شعارات ترويجية، ومنها «صمام الأمان الاجتماعي» و«مظلّة الأمان الاجتماعي» و«سياج الوطن»... فكرة الأمان الاجتماعي في أضيق تفسيراتها، محدّدة في المادة التاسعة من قانون الضمان، التي تتحدث عن العاملين الخاضعين لقانون الضمان، سواء كانوا أجراء لبنانيين دائمين أو مؤقتين ومتمرنين وموسميين ومتدربين، وأولئك الذين يعملون في قطاعات البحر والمرافئ والمقاولات والبناء والشحن والتفريغ، والذين لا يرتبطون برب عمل معيّن، وأفراد الهيئة التعليمية في مؤسسات التعليم العالي والمعاهد الفنية، والذين يعملون لحساب الدولة أو البلديات أو أي إدارة أو مؤسسة عامة أو مصلحة مستقلة...
إلا أنه في ضوء مخالفات إدارة الضمان لقانون الضمان، يسأل بعض المتابعين عن التعديلات العملية التي أصابت هذه الشعارات، وعن الثقة المفقودة في المؤسسة التي يفترض أن يلجأ إليها الأجراء في مواجهة ممارسات أصحاب العمل وتعسّفهم على الأجراء والامتناع عن التصريح عنهم.