«ــ لا أحبّ هذا الشيء الذي يحصل للناس، آنسة تاغارت.ــ ماذا تقصد؟
ــ لا أعرف. ولكنني أراقبهم على هذه الناصية منذ عشرين عاماً وقد رأيت التغيير. كانوا في السّابق يعبرون من أمامي بسرعةٍ وهمّة، وكان ذلك مشهداً رائعاً: استعجال رجالٍ يعرفون الى اين هم ذاهبون وهم متشوّقون للوصول هناك.

هم الآن يستعجلون لأنّهم خائفون. ليس التصميم هو ما يدفعهم، بل الخوف. هم لا يذهبون الى مكان، بل يهربون. وأنا لا أعتقد انّهم يعرفون ما هو الشيء الذي يفرّون منه. هم لا ينظرون الى بعضهم البعض. يجفلون حين يحتكّ بهم أحد. يبتسمون بكثرة، ولكنّه نوعٌ قبيحٌ من الابتسام: ليس فرحاً، بل هو استجداء. لست أعرف ما الذي يحصل للعالم».
من رواية Atlas Shrugged لآيان راند، ص.80.

■ ■ ■


في العلوم الاجتماعية، منذ السبعينيات، يتمّ استخدام تعبير «الخلاصة ما بعد المادية» أو «النظرية ما بعد المادية» للتدليل على تغييرٍ طرأ في قيم وسلوك الشعوب الصناعية بعد الحرب العالمية الثانية. مؤسس النظرية هو السوسيولوجي رونالد انغلهارت، الذي حاجج بأنّ عقود النموّ المستمرّ والازدهار بعد الحرب العالمية، ودخول الدول المتقدّمة في العهد «ما بعد الصناعي»، جعل الناس في هذه المجتمعات تتحرّر من الحاجات الأساسية التي كانت تحكم سلوكها، كالطعام والاكتفاء والأمن، وأصبحت قيمها الأساسية تتمحور حول عناصر «غير مادية»، مثل التعبير والابداع والهويّة وحقوق المرأة وأسلوب الحياة؛ وأنّ هذا التغيير في القيم سيتبعه، ضرورةً، تغيير في السّلوك السياسي والاجتماعي وغيره. فلا يعود في وسعك أن تتوقّع من النّاس أن يتكتّلوا ويتصرّفوا ويصوّتوا ــــ ميكانيكياً ــــ بحسب طبقتهم أو مصالحهم «الماديّة» المباشرة، بل عليك أن تفهم الجدول «الجديد» للقيم الذي يسيّر هؤلاء النّاس وتنطلق منه. كلّما توسّع المجتمع «ما بعد الصناعي» وطبقة المحترفين المتعلّمين فيه، يقول انغلهارت، ستتوسّع هذه الفئة «ما بعد الماديّة» وتصعد قيمها في الاجتماع والسياسة.
تمّ استخدام هذا المنظور، في أدبيات مختلفة، لتفسير الانحسار المضطرد للحركات العمالية والنقابية، والخطاب الطبقي عموماً، في الغرب، وانتشار حركات الهويّة والحقوق الفردية، وأفكار ما بعد الحداثة وما قبلها، سواء في صفوف «اليسار الجديد» أو «اليمين الجديد». فكرة أنّ تفسير النّاس لعالمهم لا يتطابق مع الواقع المادّي حولهم لي اكتشافاً جديداً، السؤال دوماً هو حول مصدر هذا الوعي وطبيعته، وهنا تكون الإجابة غالباً ايديولوجية. هل هذا الوعي «ما بعد المادي»، مثلاً، سببه أنّنا دخلنا في مرحلة تاريخية جديدة (كما يلمّح الكثيرون) وقد أصبحت مسائل مثل الحقوق الجنسية والتماثيل وأسماء الشوارع أهمّ من الأمن والفقر والفوارق الطبقيّة؟ أم أنّ هذا الوعي هو ثقافة نخبة معيّنة تسيطر على الدولة والاعلام والجامعات، يعكس مُثُلها وظروفها ومصالحها، وهي غير مهتمّة بإعادة ترتيب هيكلية المجتمع والاقتصاد؟ أم أنّ انتشار حركات الهوية والقيم الثقافوية مردّه أنّ ظروف الهيمنة والسياسة، منذ عقود، قد أغلقت الباب ــــ أصلاً ــــ على النّقاش حول شكل الاقتصاد والخيارات «المادية» الكبرى، فأخذت السياسة قنوات بديلة؟
الشعبوي الحقيقي، والخطير، هو ذاك الذي يأتي من «خارج النّظام»، ويلتقط العنصر الذي يمسّ حياة الكثيرين، وتتواطأ النّخب (من كلّ التيّارات) على طمسه أو تجاهله، فيستثمر به ويجيّره لصالحه. في اميركا، ستيف بانون، الذي مثّل «الركن الايديولوجي» في إدارة ترامب ويبدو أنّه في طريقه الى خارج البيت الأبيض ليستكمل حياته السياسية في صفوف اليمين بشكلٍ مستقلّ، يمثّل هذا النّموذج. الأجندة التي تبعها بانون ليبني على أساسها تحالف «اليمين البديل» في الانتخابات الماضية، كما قال في أكثر من مقابلة، كانت بسيطة ومكوّنة من ثلاثة شعارات: الأمن، القوميّة الاقتصاديّة، ثمّ تفكيك المؤسسات الادارية القائمة وإعادة بنائها. بمعنى آخر، أجندة «مادية» بالكامل، تقلب منظومة القيم «الجديدة» ــــ التي قال انغلهارت إنها تحكم المجتمعات الحديثة ــــ على رأسها. بهذا الخطاب تمكّن ترامب من اختراق القواعد التقليدية للديمقراطيين في الغرب الأوسط والولايات الشرقية، واستقطاب الطبقة العاملة البيضاء، والفوز في أغرب انتخاباتٍ في تاريخ اميركا الحديث (يكتفي الديمقراطيون، تعليلاً لهزيمتهم، بالإشارة الى أن ترامب وجمهوره «عنصريون»، وهو تفسيرٌ مريح. ولكن العنصريين والقوميين البيض والمتديّنين يصوّتون أصلاً للحزب الجمهوري، سواء كان المرشّح هو ترامب أو جورج بوش، وهم لم يصنعوا الفارق؛ أمّا العمّال البيض العاطلون عن العمل في ميشيغان وبنسلفانيا، وهم الذين أهدوا الفوز لترامب، فإنهم لم يصوّتوا لصالحه لأنهم تحوّلوا فجأةً الى عنصريين وفاشيّين، بل لأنّهم فقراء وعاطلون عن العمل، ووجدوا في خطاب ترامب ما يمسّهم).

سياسة وثقافة

في مجلّة «اتلانتيك»، كتب الصحافي والروائي كورت اندرسون نصّاً طويلاً من عشرات الصفحات، يصف فيه كيف «خسرت أميركا عقلها» وانتخبت دونالد ترامب. النّصّ هو مثالٌ على الخطاب «ما بعد الماديّ» لدى النخب الليبرالية في الغرب، بل ويشابه كلام المثقفين العرب حين «يشرّحون» شعوبهم ويفسّرون ــــ انطلاقاً من الثقافة والعقلية ــــ أسباب «تخلّفها». السّبب الحقيقي لصعود الترامبية، يحاجج أندرسون، هو تطوّرٌ مستمرّ في الثقافة الأميركية، منذ الستينيات، ينبذ العقلانيّة والواقعية والوقائع، لصالح ثقافة «فانتازيا» يحقّ لك فيها تصديق أيّ شيء طالما أنّك «تؤمن به»، واستقاء معرفتك من أيّ مصدر، والحقيقة تصبح مجرّد تأويل. يصدر أندرسون ادانةً لكامل التيارات الثقافية الأميركية في العقود الماضية: من «الستينيات المجنونة» والإفتتان بالديانات الشرقية الى ميشيل فوكو وما بعد البنيوية، وصولاً الى كارل روف واليمين المتطرّف وتلفزيون الواقع، ليتّهمهم جميعاً بأنّهم حوّلوا اميركا الى «أرض فانتازيا» يبني كلٌّ فيها عالمه وحقائقه على هواه، وكان دونالد ترامب هو ثمرة هذا الطريق الطويل. لا نفهم تحديداً ــــ من وجهة نظر أندرسون ــــ ما هي المرجعيات التي يُفترض بها أن «تمنع» الإنسان من رؤية واقعه كما يريد، وأن تقرّر له ماهيّة الحقيقة؛ ولكنّنا نستشفّ من الكاتب أنّه يسلّم هذه المهمّة للإعلام السائد والصحف الكبرى والأكاديميا، ويقول إنّ أهمّ أسباب دخول النّاس في حالة «وعيٍ زائف» كان انصرافهم عن «الإعلام المحترم» مثل «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، وعدم استماعهم لما يقوله لهم التلفزيون، ومحاولة بناء آرائهم بأنفسهم.
ولكنّ نصّ أندرسون نفسه (الذي يتحسّر فيه من أنّ أكثرية شعبه متديّنة، وأنهم متطيرون ويؤمنون بالملائكة والشياطين ــــ مع أنّ هذا الشّعب ذاته قد انتخب اوباما وكلينتون) يصلح مثالاً على حدود خطاب المؤسسة الليبرالية في اميركا. لا تجد في النصّ بكامله كلمةً واحدة عن التاريخ «المادي»، عن صعود وانحدار الطبقة العاملة مثلاً، أو تصفية الصناعات في اميركا، أو الحروب الخارجية والظرف الدولي، أو احتكار نخبةٍ تمثّل أقلّ من ربع الشّعب لـ«الحلم الأميركي» والازدهار فيما السّود والأقليات الفقيرة، ومعهم العمّال البيض، يعيشون حياةً صعبة مسدودة الأفق (هذا تحديداً ما يحاجج به كتابٌ جديد للاقتصادي ريتشارد ريفز، بعنوان «محتكرو الأحلام»، اذ يقول إنّ مشكلة اميركا ليست في الأثرياء الكبار، أقلية الواحد في المئة التي يركّز عليها الجميع، بل في طبقةٍ وسطى عليا هي التي تعيش الرفاه الأميركي الحقيقي، وقد صنعت نظاماً تعيد فيه انتاج ذاتها، بحيث يكبر أولاد المرفّهين المتعلّمين ليصبحوا مرفّهين متعلّمين، فيما «اميركا الثانية» تظلّ في مكانها). كلّ هذه العوامل هي خارج السّرديّة.

التاريخ لا يُصنع في شارلوتسفيل

رواية آين راند الشهيرة، Atlas Shrugged (لا أعرف ما هي التّرجمة العربيّة الأصحّ، «أطلس مترنّحاً»، «أطلس هازّاً كتفيه»؟) ألهَمت جيلاً كاملاً من اليمينيين الأميركيّين، وأصبحت انجيلاً لمعتنقي الليبرتارية الشّباب. قال بول رايان، النجم الشاب في الحزب الجمهوري، أنّ الرّواية قد شكّلت شخصيّته، وكان يأمر مساعديه وموظفيه بقراءتها (ثمّ أنكر ذلك فيما بعد). ريكس تيلرسون، وزير الخارجية، يعتبرها أيضاً كتابه الأثير. وهي رواية متواضعة أدبياً، تخلط بين الخيال العلمي وعالم الأعمال والسياسة والتشويق، عن مجموعةٍ من الأفراد الأفذاذ، الأحرار، الذين يشعرون بغربةٍ في عالمهم ويحتقرون المثل السائدة التي تقيّد الفرد وتخضعه للجماعة وتروّج للتفاهة والتقليد (احدى بطلات الرواية، وريثة شركة سكّة حديد كبرى، تكتشف مثلاً أنّ عدوّها الحقيقي في العالم هو الغباء وانعدام الكفاءة، وليس الخصوم). يقرّر هؤلاء، بعد أن يئسوا من إصلاح العالم، أن يبدأوا «إضراباً» سرياً، ويختفون ــــ واحداً تلو الآخر ــــ في قريةٍ مثالية بنوها بحسب فلسفتهم، ثم يخطّطون لتدمير المجتمع وإسقاطه وبنائه من جديد. يسيطر زعيم هذه المجموعة على الراديو الوطني في آخر فصول الرواية، فيما النظام ينهار والأضواء تنطفئ في نيويورك، ويلقي خطاباً على طول عشرات الصّفحات في الكتاب، يشرح فيه فعلياً فلسفة راند الفردانية، التي تحتقر الدولة والجماعة وتدعو الى عالمٍ تحكمه حرية الفرد وابداعه، وتنتصر فيه الكفاءة («لقد ضحّيتم بالعدالة من أجل الرّحمة، ضحيتم بالاستقلال من أجل الوحدة، ضحّيتم بالعقل من أجل المعتقد، ضحّيتم بتقدير الذات لصالح انكار الذات، ضحّيتم بالسعادة من أجل الواجب»).
ترامب لن يكون هذا الانسان، الذي يتسلل الى النظام ويدمّره من الدّاخل، ولكنّ ستيف بانون وأمثاله هم أقرب الى هذا الدّور. في المقابلات التي انهال بها بانون على الإعلام، قبيل خروجه من البيت الأبيض، شرح أنّ النقاش السياسي الحالي في الإعلام الأميركي حول شارلوتسفيل والنازية الجديدة هي تفاصيل وإلهاء، وأنّ المعركة الحقيقية هي مع الصّين، والشّعار الأساسي هو القومية الاقتصاديّة، والمسألة هي «الحرب الاقتصادية القائمة» بين واشنطن وبيجينغ ــــ بمعنى آخر، يطلب بانون أن تدار الامبراطورية الأميركية بشكلٍ مختلف. خروج بانون بهذا الشّكل، في مواجهةٍ واضحة مع المستشار الاقتصادي لترامب غاري كوهن، رجل «غولدمان ساكس» وجماعة الأعمال التي لا تريد مواجهة الصين ولا تغييراً في نظم التجارة، ستلعب لصالحه في صفوف اليمين وتعطيه شرعية ومصداقية، كأنّه هندس خروجه بنفسه.
قد يتصوّر البعض، بخاصّةٍ في صفوف اليسار الأميركي، أنّ قلب السياسة اليوم هو في شارلوتسفيل، وفي مواجهةٍ حول التماثيل والرموز بين مئاتٍ من الفاشيين العنصريين مقابل مئاتٍ من الناشطين اليساريين (قال كورنيل ويست في مقابلة تلفزيونيّة أنّ الأناركيين ــــ لا أبناء الأحياء السوداء ــــ هم الذين تصدّوا للفاشيّين في شارلوتسفيل، ممتدحاً اياهم؛ وهذا يعطي فكرةً عن الامتداد الشعبي للحدث). لا شيء أحبّ على قلب الراديكالي الغربي من أن يتصوّر نفسه وهو «يواجه النازيين» (وإن كانوا، بالفعلِ، حركةً صغيرةً مضحكة يتبرّأ منها الجميع) و«يحارب العنصرية» ــــ عبر نزع تمثالٍ من ساحة مدينة ــــ ولكنّ هذا كلامٌ يمكن أن تقوله «سي ان ان»، أو هيلاري كلينتون، فهو لا «كلفة له»؛ لا يطالب بأيّ تغييرٍ فعليّ، ولا يهدد المؤسسة السياسية والاقتصادية القائمة. بل إنّ أفضل تعبيرٍ عن حدود سياسات الهويّة والثقافة قد يكون على لسان بانون نفسه، وليس منظّرٍ ماركسيّ، اذ قال لـ«بوليتيكو» قبل ساعاتٍ من إخراجه من البيت الأبيض: «طالما أن الديمقراطيين يتكلمون على سياسات الهوية، فأنا قد غلبتهم. أريدهم أن يتكلموا على العنصرية كلّ يوم. لو ظلّ اليسار يركّز على العرق والهويّة، في حين نستحوذ نحن على شعار القومية الاقتصادية، فسوف نسحق الديمقراطيين».