لماذا تنقرض الأنواع؟ للإجابة عن هذا السؤال القديم والمتجدّد، لا يفترض أن نتحدث عن سبب واحد وحتميات وقوانين صارمة... إذا كنا نتحدث من الناحية البيولوجية. فعلم البيولوجيا، بخلاف علم الفيزياء الذي يقول بالحتميات، يقوم على التعددية، أي على تعدد التفسيرات. فالتعددية هي التي تفسر غالبية الظواهر والعمليات البيولوجية.
لذلك فإن انقراض نوع معين من الأحياء قد يكون بسبب انتصار نوع آخر منافس له في معركة البقاء، أو بسبب مبالغة الناس في اضطهاد وقتل (صيد) أفراده، أو في تدمير الموائل و"البيئة الحاضنة"، أو إلى تغير غير ملائم في المناخ، أو إلى تغير في النظام الايكولوجي وانعدام الغذاء الأساسي الذي يعيش منه أو عليه النوع، أو إلى حدث كوكبي مفاجئ، أو أكثر من عامل من هذه العوامل مجتمعة (بعضها أو كلها). كما أن الاحتمال الثالث موجود في علم البيولوجيا، بعد أن كان معدوماً في علم المنطق. ففكرة الانتخاب الطبيعي قد انبثقت كحل ثالث اعتمده علم البيولوجيا لإنهاء الجدل حول أصل الأنواع والتغير التطوري، بين من يقول بالمصادفة ومن يقول بالضرورة وفكرة البقاء للأصلح. أي أن الطبيعة هي التي تعرف ما هو الأصلح، وليس هناك من ضروريات وحتميات كما في علم الفيزياء. وإذا قلنا أن الطبيعة هي التي تعرف، لا يعني ذلك، أنها هي المسؤولة عن انقراض الأنواع، وأن الإنسان لم يعد مسؤولاً مهما فعل ومهما حصل. فتدخّل الإنسان كان عاملاً حاسماً في تخريب الأنظمة الايكولوجية وفي تعطيل عمل علماء البيولوجيا والبيئة ودراساتهم واستنتاجاتهم.
هذا في العام، أما في الخاص، فإن تواطؤ خبراء الطبيعة مع تجارها واستبعاد فلاسفة العلم هما تسببا بكوارث لا نعرف اليوم كيفية الخروج منها والتي لن تنتهي إلا بنهاية (انقراض) النوع الإنساني نفسه. كانت الفلسفة أم العلوم... وحين خرجت العلوم من رحمها وأرادت الاستقلال، لم تنكر (الفلسفة) حق العلوم في الاستقلال وتأسيس مناهجها ومفاهيمها الخاصة في التفسير والتحليل والتبرير… إلا أن هذه الأخيرة، أنكرت على الفلسفة ضرورة أن تستمر في عملها في تفحص "منطق التبرير" وفي التدقيق بمناهج التفسير وفي تقييم "المنطق الأخير" لما تذهب إليه الأمور في العلوم. وهذا ما يفسر اليوم غلبة منطق خبراء يدعون الى تنظيم صيد الطيور كتسوية بين التجار والصيادين على منطق علماء البيولوجيا الذين يدعون إلى وقف قتلها بالمطلق، تمهيداً لاستكمال رصدها ومراقبتها وتصنيفها وفهم طبيعة حياتها ووظائفها في النظام البيئي.
ولعل فهم وظائف الأنواع، هو الذي يتحول الى هاجس علماء البيولوجيا والايكولوجيا الجدد، الذين يرون اليوم "أن صحة النظام البيئي ربما لا تعتمد فقط على عدد الأنواع الموجودة فيه، إنما تعتمد أيضاً على تنوُّع صفات تلك الأنواع". هذه الفكرة التي يطلق عليها اسم "إيكولوجيا الصفات الوظيفية" والتي تشهد رواجاً متزايداً هذه الأيام بين علماء الإيكولوجيا. تعتبر هذه الفكرة أن التنوع البيولوجي لا ينبغي أن يقتصر على العدد المتوفر من نوعٍ ما في نظام بيئي، وإنما ينبغي مراعاة الخصائص المختلفة للأنواع والأشياء التي تستطيع القيام بها؛ إذا ما قيست وفقاً لصفات محددة مثل حجم الجسم أو طول الفرع... بنفس قدر أهمية الحفاظ على صحة النظام الإيكولوجي وقدرته على التكيف.
يمكن لذلك التحول في التفكير أن تكون له مدلولات كبيرة لعلم البيئة؛ فقد يكون ضروريّاً لفهم طريقة تكيُّف النباتات والحيوانات مع تغيُّر المناخ والتنبؤ بها. وقد بدأ "التنوع الوظيفي" يؤثر على طريقة تفكير علماء البيئة بشأن المحافظة على الأنواع؛ بل إن بعض الحكومات قد بدأت في إدراج تلك الصفات في سياساتها الإدارية. فعلى سبيل المثال، وبحسب ما ورد في العدد الأخير من مجلة "nature" العلمية، "تحركت حكومة بليز منذ عدة أعوام لحماية أنواع سمك الببغاء من الصيد الجائر، ليس بالضرورة لأن أعدادها في تناقص، ولكن لأن تلك الأسماك تقوم بتخليص المرجان من الطحالب ولها أهمية بالغة في بقاء الشعاب المرجانية على قيد الحياة".
ليس لدى حكوماتنا بالطبع أية خطط لمواجهة انقراض الأنواع ولا لدينا البيانات الكافية لمعرفة القليل عن حياة الكائنات البرية والبحرية، ولا نعرف مدى تأقلمها أو تكيفها مع التغيرات المناخية أو مع الملوثات والتهديدات البشرية التقليدية وغير التقليدية… فيمكن أن يتم السماح بالصيد أو إنشاء معامل أو مشاريع كبرى وعدم مراقبة عملها... وقد تركت الساحة لتجار الأنواع كما لتجار الدراسات والبيانات الكاذبة ولسمسرات السياسيين، بعد أن تم قلب المعادلات العلمية الى معادلات "سياسية" وتم تطبيق مبدأ البقاء للأكذب بدل البقاء للأصلح، كوسيلة شبه وحيدة للتكيف مع حالة الفوضى وانعدام المعايير التي نعيشها مؤخراً.

* للمشاركة في صفحة «بيئة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]