عندما بدأتُ حياتي المهنية بعد نيل إجازة في الرياضيات العامة والكفاءة للتعليم الثانوي، كنتُ أعلّم الرياضيات والفيزياء.لم يسترعِ انتباهي يوماً التلاميذ الحاصلون على علامات مرتفعة؛ حيث لاحظتُ أن نظام التقييم في المدارس وفي الامتحانات بشكل عام، يخطئ ويهمل العديد من المواهب عند التلاميذ، يقتل الإبداع في نفوسهم ليجعلهم «مدجّنين»، لاهثين وراء العلامات من دون أي اكتساب للمهارات في الحقل الخاص بالمادة أو بالقيم التربوية بشكل عام.

وربما تكون ظروف تعليم الرياضيات في المدارس من أكثر الظروف المؤثرة سلباً على التلاميذ: أغلبية معلّمي الرياضيات لا يعرفون أن الذكاءات متنوّعة وأن الذكاء المنطقي - الرياضي واحدٌ منها وحسب، ويفتقدون للمعنى في ما يعلّمونه فتصبح حصص الرياضيات ساعات مجرّدة، تغلب عليها النزعة التقنية وهي بالحقيقة تصيب قلب المنظومة التربوية لأنها تجعل القدرات كالفاعلية متقدّمة على القيم كالصدق.
وبالمقابل، كنتُ أسعى قدر الإمكان أن لا أكون معلّم رياضيات كلاسيكي؛ فاقتصر اهتمامي على الحدّ الأدنى من مراعاة مقتضى المناهج لصالح العمل مطولاً على تاريخ العلوم، وطرائف العلماء، وتطوّر أفكارهم بالنسبة إلى أفكار التلاميذ، ومقاربة الحقل الخاص بالمادة بشكل شمولي (خمس رحلات تربوية إلى خارج لبنان في عشر سنوات قضيتها في التعليم الثانوي).
مالكة بقيلي، إحدى تلميذاتي خلال إحدى سنوات تعليمي، كانت تحصل على امتداد سنوات دراستها على العلامات الأدنى في مادة الرياضيات. ولكنّها كانت أذكى من أن تكون تلميذة مجتهدة، هكذا كنتُ ولا زلتُ أقول لها. فهي تبحث عن المعنى في مناهج تفتقد للمعنى في تعليم الرياضيات، وكانت علاماتها المتدنية إدانة للمناهج المدرسية القائمة على تجزئة المعرفة وانفصال المواد الدراسية عن بعضها وغرقها في النزعة التقنية. وعلى الأساتذة بشكل عام، وأساتذة الرياضيات بشكل خاص، أن يدركوا ذلك. تذكّرتني مالكة بعد مرور سنوات، وأصبحت اليوم فنّانة تشكيلية ولها عملها الخاص في باريس... امتلأتُ سعادةً عندما دعتني إلى معرضها الفني في بيروت، وكرّرتُ على مسمعها أن الأذكياء في الفن لا يكترثون كثيراً بالنجاح في الرياضيات في المدرسة.
* أستاذ التربية على المواطنية
في كلية التربية ـ الجامعة اللبنانية