القاهرة | ثمة خط دقيق، في علم النفس، يفصل بين الكآبة والاكتئاب. الحالة الأولى، كان يمكن تلمّسها بين المصريين، خلال السنة التي حكم فيها «الإخوان المسلمون» (2012-2013)، في أحاديث الناس أو حتى ملامح وجوههم. وأمّا الحالة الثانية، فقد طغت على المجتمع المصري خلال السنوات الثلاث الماضية، لتتحوّل إلى ظاهرة ملازمة لعهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وذلك على نحو لا يحتاج المرء فيه إلى بذل جهد لاستشعارها، ما إن تطأ قدماه أرض المحروسة.
ربما كان تشابه العوارض بين الكآبة والاكتئاب هو ما يجعل الكثيرين يخلطون بين الحالتين، مع أنهما مختلفتان في الجوهر، فالكآبة حالة نفسية عابرة، يمكن تجاوزها بتجاوز مسبباتها، كما هي حال الكآبة الموسمية ــ كآبة الخريف أو الشتاء ــ التي سرعان ما تتلاشى لحظة حلول فصل الربيع، وهو ما حدث تماماً، حين افترش المصريون الميادين، في يوم مشمس من صيف عام 2013، لإسقاط نظام «الإخوان المسلمين».
أما الاكتئاب، فظاهرة أكثر خطورة، تجعل المرء/الشعب إمّا مسلِّماً بقدره، ومستسلماً لعجزه عن تغيير الواقع، أو مستعداً للذهاب إلى خيارات خطيرة، تراوح بين الجنوح نحو نزعات متطرفة والانتحار بكافة أشكاله!

يبدو المعارضون مدركين
أن لا إمكانية للتغيير
إلا من داخل النظام


هذا الاكتئاب العمومي يولّد شعوراً حالياً لدى الغالبية الساحقة من المصريين، بأنّ المسافة نحو التغيير باتت تقاس بالسنوات الضوئية، لا بولاية رئاسية أو اثنتين، لا بل إن «الثوريين» أنفسهم باتوا يخشون الثورة بحدّ ذاتها، لأسباب عدّة، لا تقتصر على الإحباط من ذلك التناقض الحاد بين الحلم والواقع، بل تمتد لتشمل الوسواس القهري تجاه التداعيات المحتملة عليهم، لأي انفجار شعبي غير مضبوط، في ظل تفاقم الأزمات الاقتصادية، على نحو يكاد يكون غير مسبوق في التاريخ المصري المعاصر.
وهذا الاكتئاب ذاته، يجعل أولئك الذين تحدّوا القدر قبل سبعة أعوام، يخفضون سقف توقعاتهم، من هدف إيصال شخصية ثورية إلى الحكم، في انتخابات عام 2012، إلى مجرّد البحث عن «السيّئ» بديلاً من «الأسوأ»، حتى وإن كان ذلك «السيئ» من داخل النظام الذي ثاروا عليه في عام 2011!
على هذا الأساس، تبدو كوّة الأمل الوحيدة لدى «الثوريين» مجرّد عودة شخصية مثل أحمد شفيق، آخر رئيس للوزراء في عهد حسني مبارك، أو سامي عنان، الرجل الثاني في المجلس العسكري في فترة ما بعد الثورة، لتصدّر المشهد السياسي، بوصف أحدهما مرشحاً محتملاً يمتلك حدّاً أدنى من الفرص لإحداث اختراق على مسرح العبث السائد اليوم.
لا يخفي المعارضون عجزهم عن تحقيق التغيير، ولا يختلفون ــ إلا بالقليل ــ في تشخيص ما آلت إليه الأوضاع، وذلك ضمن مراجعات أوّلية، لم تتعدّ حتى الآن إطار النقاشات غير المنتظمة، لا بل العشوائية في معظم الأحيان، ما يفقدها الجدّية التي يمكن أن تقود إلى إطار حركي لاستكمال المعركة من أجل «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية».
برغم هذا المشهد الضبابي، والمتّشح بالسواد، تحمل نقاشات المعارضين جانباً مضيئاً. لقد تخلّى هؤلاء عن الكثير من الأوهام التي جعلتهم قبل سبعة أعوام يُسقطون شعار «كن واقعياً واطلب المستحيل» على حراكهم الشعبي، فباتت واقعيتهم أكثر هدوءاً، تقرّ بالكثير ممّا كان مجرّد التلميح إليه في السابق «محرّمات ثورية»، من قبيل الحديث عن الدور الفعّال للجيش المصري في إسقاط نظام حسني مبارك، مروراً بالعلاقة الملتبسة والمعقّدة مع جماعة «الإخوان المسلمين»، وصولاً إلى الاعتراف الواضح باستحالة القفز فوق الدولة العميقة الضاربة بجذورها إلى عهد محمد علي باشا... أو حتى إلى أيام الفراعنة.
يبدو لسان حال المعارضين تجاه حكم السيسي ترجمة مصرية لأطروحات فيلهلم رايش في كتابه الشهير «علم النفس الجماعي للفاشية» (1933)، ولا سيما إشارته إلى أنّ «من أكبر الأخطاء التي يمكن الوقوع فيها عند تقييم الدكتاتورية، القول إن الدكتاتور يفرض نفسه على المجتمع ضد إرادة الأخير، بينما تاريخ كل دكتاتور، في حقيقة الأمر، ليس سوى استعادة للأفكار الدولتية القائمة أصلاً، التي لا يحتاج إلا إلى تغليظها لكي يكتسب القوة».
عند هذا الحد، يمكن فهم تحدّيات التغيير في مصر، فالحراك الثوري ــ أيّاً كان شكله والجهات المنخرطة فيه ــ لا بد أن يأخذ في الحسبان ذلك الفيل الضخم المسمّى «بيروقراطية الدولة»، التي يجسّدها تمثال الكاتب المصري، الذي تتصدر صورته الجهة الخلفية للعملة المصرية من فئة المئتي جنيه.
على هذا الأساس، كان «الستاتيكو» القائم خلال عهد حسني مبارك متمحوراً حول التوازنات الدقيقة التي تضمن ولاء بيروقراطية الدولة، بكافة أجنحتها، وهو ما حصّن النظام الحاكم، لسنوات طويلة، أمام القوى المعارضة ــ بشقيها المدني والإسلامي.
طوال تلك السنوات، كانت ثمة معادلة ذهبية يمكن الركون إليها لتوصيف الحالة المصرية، وهي ثلاثية جهاز الدولة الملتف حول رئيسه، والإسلاميون الذين أحسنوا فنون البراغماتية، والمعارضة المدنية التي تعرّضت لانتكاسة تلو الأخرى، منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر.
وبعد سبعة أعوام على «ثورة 25 يناير»، بات بالإمكان النظر عن بعد إلى طبيعة اللحظة التي أسهمت في الاندفاعة الثورية، والمرتبطة خصوصاً باختلال العلاقات داخل جهاز الحكم، في ظل مشروع التوريث وبروز طبقة جديدة من رجال الأعمال الملتفين حول جمال مبارك.
يومها، كان طبيعياً أن تنحاز المؤسسة العسكرية، ولو ظاهرياً، إلى الثورة، لمواجهة الحالة الجديدة التي قادها «أبناء الريّس»، والمنظومة الأمنية الموالية لهم، بقيادة حبيب العادلي، وبالتالي تحصين الدولة العميقة من الاختراق، حتى وإن تطلّب الأمر عقد «صفقة مع الشيطان»، اتخذت شكل تفاهمات مع «الإخوان المسلمين» الذين أحسنوا التقاط كل تلك الإشارات، التي قادتهم إلى الحكم بعد انتهاء المرحلة الانتقالية.
انطلاقاً من ذلك، يمكن فهم طبيعة العلاقة بين المؤسسة العسكرية و«الإخوان»، التي اتخذت شكلاً تحالفياً منذ الاستفتاء الأول على التعديلات الدستورية (آذار 2011)، وحتى انتخاب محمد مرسي رئيساً للجمهورية. حينها كانت المؤسسة العسكرية تحاول ترميم ما حطّمته الثورة داخل الدولة العميقة، فيما كان «الإخوان» يطمحون إلى اختراق أجهزة الحكم، في ظل أوهام «التمكين»، وهو ما ولّد صداماً، اتخذ بدايةً شكل عراقيل بيروقراطية هائلة أمام النظام «الإخواني»، ليبلغ نقطة الذروة، حين تقاطعت مصالح جهاز الدولة ــ بكافة أجنحته ــ مع أهداف القوى المدنية في إطار ما سُمّي «ثورة 30 يونيو».
هكذا بدا واضحاً أن الكل أدرك التعقيدات المتصلة بالبيروقراطية المصرية، وتعامل معها، في سبيل تحقيق الأهداف السياسية، إلا القوى الثورية نفسها!
قد يكون الأمر مفهوماً، حين يتعلق الأمر بالتناقض بين الثورة وما تحمله من أفكار تقدّمية، وبين جهاز الدولة الذي يغلب عليه الطابع التقليدي ــ الرجعي. ومع ذلك، فإن كثيرين يقرّون اليوم، أن قدراً معيّناً من البراغماتية كان ضرورياً منذ البدايات، لنجاح الثورة، حتى وإن تطلّب ذلك تقديم بعض التنازلات.
اليوم، يبدو المعارضون أكثر إدراكاً بأن لا إمكانية للتغيير السياسي إلا من داخل النظام السياسي نفسه. صحيح أن معظمهم لا يقول ذلك صراحة، إلا أن رهاناتهم وتحرّكاتهم تشي بذلك.
هذا ما يفسّر، بشكل أو بآخر، عجز القوى المعارضة عن التوحّد ضمن جبهة سياسية واحدة، من شأنها أن تمهّد الطريق لتقديم مرشحاً ثورياً منافساً للسيسي في الانتخابات الرئاسية.
قد يفسر البعض هذا العجز بالتناقضات الحادة بين القوى المعارضة فحسب، وهي حقيقة ثابتة، في ظل إخفاق كل محاولات توحيد الجهود لأسباب تتفاوت بين الشخصانية من جهة، والاختلاف حول طبيعة تلك الجبهة السياسية المفترضة، وطبيعة القوى المشاركة فيها (ولا سيما حين يتعلق الأمر بجماعة «الإخوان المسلمين»)، ولكن التفسير الأقرب إلى الواقع، ينطلق من تلك المعضلة التي يقرّ بها البعض، ولا ينكرها البعض الآخر، باستحالة التغيير، دون سند من داخل بيروقراطية الدولة، التي يفترض أن الثورة قامت ضدها.
ومع ذلك، فإن أية مقاربة للعلاقة بين القوى الثورية وجهاز الدولة تبدو اليوم أكثر تعقيداً مما سبق، بالنظر إلى التحوّلات التي طرأت على المنظومة الحاكمة نفسها، منذ وصول السيسي إلى الحكم من جهة، وتلك التي عصفت بالانتكاسات التي تواجهها المعسكرات السياسية المناوئة للنظام من جهة ثانية، ولا سيما لجهة غياب المكوّن الإسلامي، أو تحييده عن الصراع، غداة الضربة القاصمة التي تعرّضت لها جماعة «الإخوان المسلمين»، وعودة السلفيين إلى موقعهم التقليدي كقوة مهادنة للنظام، أو حتى تابعة له على نحو مثير للاشمئزاز.
على هذا الأساس، لم يعد متاحاً للمعارضة المدنية الركون إلى حليف معارض آخر، كما كانت الحال في عهد حسني مبارك، أو خلال الثورة، أو حتى في انتخابات عام 2012، ما يجعلها مضطرة، في مرحلة معينة، إلى اللجوء لأبغض الخيارات، وهو البحث عن سند داخل جهاز الدولة، ومن هنا يأتي رهان البعض على شخصيات «دولتية» على شاكلة أحمد شفيق.
ولكن هذا الأمر، ليس بالبساطة التي يتصوّرها البعض، فجهاز الدولة نفسه لم يعد كما كان في السابق، ذلك أن الولاية الرئاسية الأولى للسيسي دفعت باتجاه سيطرة أحادية للمؤسسة العسكرية على كافة مفاصل «الدولة العميقة»، متجاوزة التباينات والتناقضات التي طفت على السطح، في المراحل الأولية من العهد الجديد، سواء على مستوى العلاقة مع الجهاز الأمني (وزارة الداخلية) أو العلاقة مع شبكة المصالح الاقتصادية ولا سيما طبقة رجال الأعمال، الذين انحسرت قدرتهم، بنحو كبير، على الإمساك بالنظام الحاكم، من اليد التي تؤلمه.
هكذا، تبدو اتجاهات النظام السياسي الحاكم في مصر أقرب إلى نموذج شهدته أميركا اللاتينية في حقبة الدكتاتوريات العسكرية خلال السبعينيات من القرن المنصرم، التي استدعى التغيير فيها سنوات عجافاً من العمل القاعدي، القائم على عنصرين أساسيين: حقوق الإنسان والقضايا الاقتصادية ــ الاجتماعية، وهو ما أثمر بعد نحو عقدين تحوّلات جذرية، جعلت من الممكن إحداث التغيير، بموجات متفاوتة من المد والجزر بين الانتصارات والانتكاسات.
وبالمقارنة مع الحالة اللاتينية، فإن القوى المعارضة المصرية يقتصر تحرّكها اليوم على الجانب المرتبط بحقوق الإنسان، باعتباره أولوية ملحّة، بالنظر إلى ما تشهده مصر من تجاوزات وانتهاكات في هذا الميدان، فيما يغيب العنصر الاقتصادي ــ الاجتماعي عن جدول أعمالها ــ أو أنه لا يحتل الأولوية التي يستحقها ــ في ظل حالة غليان وإحباط في الأوساط الشعبية، جراء الضغوط الهائلة، التي أفرزتها السياسات الاقتصادية للنظام الحالي، والمنطلقة بنحو خاص من وصفات صندوق النقد الدولي.
كل ما سبق، يجعل المعارضة المصرية في مكان، وقاعدتها الجماهيرية المفترضة في مكان آخر، خصوصاً أن الشعارات المرتبطة بالحريات السياسية لم تعد تشكل أولوية آنية للمواطن المصري، الغارق في همومه اليومية المتصلة بتحصيل القوت والتعليم والطبابة لأبنائه.
هذا الواقع يشكل تماماً المعضلة التي تسير المعارضة المصرية داخل دائرتها المفرغة، والتي تجعلها متوجسة من انفجار كبير من داخل التجمعات السكانية الفقيرة، وهو انفجار قد يطاولها بقدر ما سيطاول النظام الحاكم، خصوصاً أن الطبقات الفقيرة باتت تنظر إلى المعارضين باعتبارهم مسؤولين ــ كلياً أو جزئياً ــ عمّا آلت إليه الأوضاع الاقتصادية في البلاد ــ ومن هنا تحسّر الكثيرين على عهد حسني مبارك ــ أو حتى أسوأ من ذلك، حين تنظر الطبقات الأكثر فقراً إلى هؤلاء المعارضين من باب انتمائهم إلى طبقة اقتصادية أعلى (الطبقة الوسطى).
انطلاقاً مما سبق، تبدو خريطة الطريق نحو التغيير أكثر تعقيداً اليوم، قياساً بما كانت عليه الحال، في السنوات الماضية، فالأولويات اختلفت، والانتخابات الرئاسية، المفترض إجراؤها خلال العام المقبل، مجرّد محطة عابرة، لتجديد العهد الحالي، بصرف النظر عن الاحتمال الأكثر ترجيحاً بإعادة انتخاب الرئيس الحالي، أو الاحتمال الأقل ترجيحاً بانتخاب رئيس جديد من ضمن التركيبة ذاتها... فبغياب البدائل الجذرية، كل الطرق تؤدي إلى «السيسي».