تحت عنوان «أغنية على بحر إيجة»، صدرت أخيراً المجموعة الشعرية الرابعة للمصري محمد متولي (1970) عن دار «آفاق للنشر». متولي الحائز إجازة آداب في اللغة الإنكليزية من «جامعة القاهرة»، نالت مجموعته الأولى «حدث ذات مرة أن» (الريس) جائزة «يوسف الخال للشعر» (1997). أسهم في إنشاء مجلة «الجراد» الأدبية، وعن مطبوعاتها صدر ديوانه الثاني «القصة التي يردّدها الناس» (1998)، وقد اختير لتمثيل مصر في مؤتمر «الكتابة الدولي» في «جامعة آيوا الأميركية» عام 1997. هناك ألفّ مادة انطولوجيا الشعر المصري الجديد «أصوات غاضبة» الذي صدر عن «جامعة أركنسن» عام 2002 ، كما نشرت له مطبوعات «الكتابة الأخرى»، ومجموعته الثالثة «النزهات المفقودة» (2010). في «أغنية على بحر إيجة»، بذل متولي لقصائده جملة حيوية، تحترم نظام الأحاسيس والتأمل. من مشهد بارد، يستطيع شحن قصيدته، بفضل حركة الجملة عنده، والانفعال، والحرارة الإنسانية: «يجلس في شرفته بالدور السادس/ بأوتيل إزمير بالاس/ ويصوّب قصائده كذلك/ تجاه البحر المظلم».

لا يسعى متولي الى الجمال الشكلي في تناغم الجملة، بل يُضمنّها الإحساس، والإيقاع الحيّ، والعبارة التي «تتنفس» حتى لو تأثر أو انهار تركيب الجملة التقليدي. قصيدة متولي متخلصة من المبالغة بـ «الشعر»، لكنها الشعر نفسه، إزاء المشاعر والأشكال المتنوعة للحياة التي تجري أمامه.
«أغنية على بحر إيجة» مشاهدها مُستّلة من تركيا التي زارها الشاعر، ومن مدينة إزمير، ومن بحرها وفنادقها ومشاهدها، التي يتموضع جمالها في أغلب قصائد المجموعة: «تلكم المدينة/ - دوماً -/ صقيعها/ يجذب من كل زوجين اثنين». يكتب متولي في التمرد على العادي من المشاهد الخارجية، مُستلاً روحها من دواخلها. هذا التمرد وهذا الهدم للعادي في المشهد، يؤديان بطريقة جليّة إلى خلق عالم خاص للقصيدة في مذاق حضورها الغرائبي، الأمر الذي يؤكده متولي في قصائده كافة. نصوص محتشدة بأشباح فاتنة من صنعه، أشباح تألفها الروح المنعزلة. كل قصيدة تبدو أمام النفي الكامل لأكثر المعطيات أولية في الشعر. كأن متولي يتقصّد للأشياء والمشاعر والمشاهد، أن تحل وتتلاشى وتنفلت من عاديتها. ثمة عالم آخر موجود لأجلها، مُغلق وراسخ في هذيانه، ومتماسك في بُعد جديد يتكفّلهُ الشاعر ببراعة، كما في قصيدة «غيمة مودّة»: «ليل إزمير في الشتاء دافئ/ رغم الصقيع/ إذ إن البخار الذي يتصاعد/ من أفواه الضاحكين/ على طول الممر الساحلي/ يُشّكل غيمة مودّة». يحاول الشاعر تكثيف المشهد من خلال العلاقات القائمة بين العناصر المختلفة (البحر الذي يعاود الظهور، الشخصيات الهامشية، المشاعر وأفعال الطبيعة التي تستمر أو تتكرر على مدى المجموعة الشعرية، المسافات واستعادات للصور والكلمات).
تحقيق وحدة البنية لقصائد محمد متولي متوافرة ولكن خارج كل منطق عقلاني. هكذا تنضج قصيدة بالغة النداء ومؤثرة، بالرغم من بعض العناصر المجانية والعبثية للوهلة الأولى. عناصر متنافرة، ما دام متولي يخلط الحاضر، بالذكريات الشخصية، والاختراعات اللفظية، والصور والتلميحات مُحوّلاً إياها إلى القصائد النثرية ذات القراءات المتعدّدة.
يستخدم لغته وقصيدته للروي، ولسرد ما يراه، ويستوي النثر في قصيدته على حداثة يريدها الشاعر، كما يسعى الى كتابة تكتنز شعريتها كل ما هو خارج الشعر، بما يعني الأدوات المحدودة التي استخدمت سابقاً لغاية كتابة الشعر. نراه يُدخل تأثراته بالرواية، كذلك المشهد السينمائي واللوحة التشكيلية والموسيقى الى ما هنالك من سائر الفنون التي يتأثر بها... كل ذلك بحساسية الزمن الراهن الجديد، وصلتنا به جميعاً وتأثيره علينا. ومن هنا أيضاً تأثر متولي وتأثرت قصيدته بالضرورة، بعيشه الأميركي وما يتيحه من معرفة واسعة، مع التشديد على حضور الروح، روح القصيدة.