عمان | في مثل هذا اليوم من العام الماضي، اغتيل الكاتب والمفكر الأردني ناهض حتر (56 عاماً) حينما كان يهمّ بالدخول إلى قصر العدل في منطقة العبدلي وسط عمان، التزاماً بموعد جلسة للمحكمة التي كانت تنظر في عشرات الشكاوى ضده بتهمة «الإساءة للذات الإلهية» بسبب إعادته نشر كاريكاتير على «فايسبوك».
رفض حتر اقتراحاً من محاميه وأصدقائه بالحضور مبكراً قبل الجلسة، أو متأخراً عنها، حتى لا يتعرض لاعتداء المشتكين أو أنصارهم، وجاء في الموعد المحدد، حيث كان بانتظاره «داعية سلفي» أطلق الرصاص عليه، فأصيب بإصابات بالغة في الرأس والرقبة. ومع تأخرٍ مريب لوصول سيارة الإسعاف وجمودٍ من رجال الشرطة، نزف دماءه على مدخل «العدل» ليصل المستشفى شهيداً.
في ذلك اليوم الأسود، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي عشرات المنشورات المهللة بقتله دون أن تحرك الحكومة ساكناً ضد أصحابها. وحتى في الشهر الماضي، عندما انطلق «مهرجان الفحيص» تحت عنوان «تكريم الشهداء والوطن وضحايا الإرهاب» من العسكريين والمدنيين، أُبلغت العائلة أن ناهض، الذي صنّفه القضاء على أنه قتل بيد إرهابي، هو أحد الشهداء المكرمين، لكن تبين أن أشخاصاً من منظمي الحفل حذفوا اسمه من القائمة. هذا التسلسل في الأحداث لا يعني إلا أن الدولة الأردنية بقيت مستمرة في سياستها بحق حتر. والآن، تستعد الفحيص لاستقبال العام الأول على رحيله بصلاة في كنيسة مريم العذراء، لكن مع استمرار في منع إقامة تأبين له في العاصمة عمّان.


بين حتر والملقي

يصرّ معتصم حتر على تحميل القصر الملكي، ورئيس الوزراء هاني الملقي، مسؤولية التحريض على قتل والده. وفيما استغرب مشاركة الملك عبد الله الثاني، وعقيلته رانيا، في مسيرة شارلي ايبدو قبل أكثر من سنة، قال إنهما لم يحركا ساكناً في قضية ناهض، ولم يوفرا أي حماية «لكاتب وطني اعتقل تعسفياً لمهاجمته الدواعش». وكان لحتر مقالات اتهم فيها الملقي بممارسة ضغوط على بلدية الفحيص بعد موافقته على بيع أراضي مصنع الإسمنت لشركة فرنسية، في استمرار لما كان يسميه ناهض «نهج الإفقار والخصخصة النيوليبرالية». كما كتب مقالة قال هاجم فيها الملقي عندما جاء تكليف ملكي للأخير بتشكيل حكومة تعدّ لانتخابات برلمانية، محذراً فيها من «تزوير» الانتخابات لمصلحة رئيس الوزراء، ومنبهاً إياه إلى «حراك شعبي» في حال استمر في الحكم.

عدا إعدام القاتل لم
تُنجز لجنة التحقيق أي تقدم في ملاحقة المحرضين

هذا الجو من التوتر في العلاقة بين الاثنين استغله الملقي عندما جاءت «حادثة الكاريكاتير» التي تم تضخيمها، فالتقط رئيس الوزراء الفرصة، وأوعز إلى وزير الداخلية آنذاك، سلامة حماد، باعتقال حتر، وذلك في تماهٍ مع الدعوات التي أطلقها إسلاميون إلى «قتل حتّر وسحله واقتلاع قلبه». وخلال تنفيذ الأمر، دوهم المنزل وهُدد نجله معتصم بالاعتقال، وحينما لم تجد قوات الأمن ناهض في البيت، أعلنت أنه «فار من وجه العدالة». وفي اليوم التالي، عندما قرر تسليم نفسه عملاً بنصيحة أحدهم، سُجن انفرادياً. يضيف معتصم: «الملقي ومؤسسة الحكم أعطيا الضوء الأخضر لتصعيد التحريض عبر دائرة الإفتاء الرسمية، وكذلك فعل مجلس الكنائس الذي نشر أيضاً بياناً أدان فيه والدي».
ومن المهم الإشارة هنا إلى ما كان يمثله حتر، المحسوب على محور المقاومة، مقابل ما يمثله الملقي، الذي استجاب فوراً للدعاية الإخوانية وساهم في التشهير بحتر. فرئيس الوزراء، الذي لا يزال في منصبه، صاحب تاريخ في توطيد علاقة المملكة مع إسرائيل، وكان قد بدأ انطلاقته السياسية حينما ترأس «المجلس الأردني» في مفاوضات التسوية المتعلقة بالاتفاقات التفصيلية بين عمان وتل أبيب عام 1994، ثم أشرف على «اللجنة المشتركة لمراقبة تنفيذ معاهدة السلام الأردنية ــ الإسرائيلية» الموقعة عام 1995.
كذلك، تولى الملقي وزارة الخارجية عام 2004، وكان آنذاك أول من أطلق مصطلح «الهلال الشيعي»، كما التقى شخصيات إسرائيلية أبرزها سيلفان شالوم وشمعون بيريز وإيهود أولمرت. والتقى أيضاً رئيس الوزراء الإسرائيلي المتوفّى أرئيل شارون في تل أبيب. وفيما استمرت زياراته إلى فلسطين المحتلة، عمل خلال تسلمه رئاسة «سلطة العقبة الاقتصادية» على فتح المجال أمام استثمارات الإسرائيليين، وكذلك دخول العمال الأردنيين إلى مدينة «إيلات». وبين 2005 و2007، عُيّن مستشاراً دائماً للملك.
وفي بيان صحافي لعائلة حتر (العدد ٣٢٦٣ في ٣٠ آب)، رفضت كل الصحف ووسائل الإعلام الأردنية نشره، قالت العائلة إنها «تزداد قناعة يوماً بعد يوم بأن الحكومة ممثلة برئيس وزرائها الملقي قد ساهمت مباشرة في اغتيال الشهيد».


الكل مشترك في القتل

رغم أن حتر كان قد حذف الرسم الكاريكاتيري وأصدر توضيحاً بشأنه، توالت الإدانات الصاخبة خاصة في أوساط الإسلاميين، ومنهم نواب في البرلمان، ثم تُوجت بإصدار «تحذير إخواني» للدولة وللمخابرات على لسان الشخصية المتشددة في الجماعة والمحسوبة على التيار السلفي داخلها، ماجد العمري، الذي توعد في تسجيل صوتي أنه في حال لم تتصرف الدولة، «سوف يتصرف المسلمون»، علماً بأن «الإخوان» رشحت العمري في الانتخابات المحلية الأخيرة ضمن قوائمها في منطقة الرابية.
هذا الوعيد وغيره نقلته عائلة حتر إلى السلطات، داعية لحمايته، خاصة أن كل ما صدر من تحريض ودعوات للقتل يندرج في إطار المخالفات القانونية الصريحة، إن لجهة قانون العقوبات والجرائم الإلكترونية، أو قانون الإرهاب، لكن أحداً لم يحرك ساكناً، كما لم يصدر قرار بمنع النشر كما هو المعتاد في القضايا المنظورة أمام القضاء الأردني. وبذلك، بدأت الخطوات العملية للتخلص من ناهض تكتمل، إذ ترافق ذلك مع مستوى آخر من الهجوم على الرجل شنه صحافيون وكتاب، وخصوم تقليديون للخط الذي ينتهجه، نالت منه ومن شخصيته، واستجلبت مواقفه السياسية التي لا علاقة لها جبراً بالقضية المرفوعة عليه، إلى حد المطالبة بإعدامه أمام الجامع الحسيني وسط العاصمة.
وفي الثامن من أيلول الماضي، أُفرج عن حتر بكفالة مالية بعدما مر بظروف صحية صعبة بسبب المعاملة القاسية في السجن وكذلك المستشفى الذي نقل إليه. في ذلك اليوم، أبلغه نائب مدير شرطة عمان، طلال العبدالات، أن أمنه الشخصي يقع على مسؤوليته، خاصة أن «مراسلاتنا الأمنية تشير إلى أن نسبة الخطر عليك أقل من 0/100». ومع أن خالد، وهو شقيق حتر، طلب الحماية من قائد أمن إقليم العاصمة، العميد عبيد الله المعايطة، لم يستجب الأخير لطلبه، بل إن الدولة عملت بطريقة غير مباشرة على كشف موعد جلسة المحاكمة عبر وسائل الإعلام من دون اعتبار للتهديدات الكبيرة.

«لم ينفذوا أوامر الملك»

يقول معتصم إنه لم يلتقِ الملك عندما جاء ليحضر العزاء في أيامه الأخيرة، بسبب اصطحابه الملقي ورئيس الديوان الملكي، فايز الطراونة، علماً بأن الأخير كان قد طلب اعتقال حتر «عدة مرات» قبل مجيء الملقي إلى رئاسة الحكومة (يشرح معتصم أنّ والده أخبره بذلك). وخلال تعزية الملك، وعد بتشكيل لجنة تحقيق في الاغتيال، لكن بعد الاغتيال تقول الحكومة إنها أعدمت القاتل (أُعلن إعدامه في مطلع آذار الماضي)، فيما بقي المسؤولون المعنيون بالقضية، وعلى رأسهم الملقي، دون محاسبة، علماً بأن رئيس الوزراء تجاوز صلاحياته الدستورية بطلبه المباشر اعتقال مواطن.

تستمر الدولة في معاداتها حتر بعد قتله بمنع إقامة تأبين
له في العاصمة
يضيف نجل ناهض أن اللجنة لم تدع العائلة وأي معنيين لتقديم شهادتهم، وما حدث «مجرد تحقيق شرطي اعتيادي، خاصة في ظل اعتراف مباشر من القاتل».
وكان القاتل رياض عبد الله قد وصف نفسه أمام المدعي العام بأنه «سلفي»، علماً بأنه كان قد عاد قبل أسبوع واحد على الاغتيال من السعودية. وأقر أيضاً بأنه لم يعرف حتر قبل أن يقرر اغتياله، لا من كتاباته ولا حتى مظهره الخارجي، بل بحث في الإنترنت للتعرف على صورته وموعد محاكمته. وعبد الله عمل إماماً لأحد المساجد في شرق عمان إضافة إلى عمله مهندساً في وزارة التربية والتعليم، وكان مؤيداً في المسجد الذي يؤم الناس فيه، للتنظيمات التكفيرية في سوريا والعراق، قبل أن توقفه وزارة الأوقاف عن الإمامة لكن دون فصله من عمله في التربية والتعليم.
من محاولة الاغتيال الأولى لحتر عام 1998 في الأردن، حتى قتله العام الماضي، مرت سنوات إضافية على مسيرة ناهض أخذت زخماً أكبر، خاصة مع بدء الحرب على دمشق، حيث انشقت المنطقة في موضوع الأزمة السورية كما لم يحدث في دول أخرى. لكن الدولة التي راهن ناهض حتر على أن فيها حدّاً أدنى من التوازنات كفيل له بالبقاء فيها ومواصلة الكتابة النقدية، لم تكفل له حماية شخصية بأقل مستوى، بل تماهت مع الإسلاميين الذين أثبت القصر أنه يحسن استعمالهم وقتما يشاء، رغم علمه بخطورة المدّ السلفي والتكفيري عليه في وقت ما، وأُنجز بذلك قتل رجل لم يكن قد تبقى في عمره الكثير في ظل معاناته الصحية من محاولة الاغتيال الأولى. ومع أن هوية القاتل «السلفية» تنذر بما تتخوف منه الدولة، فإن النهاية التي لاقاها حتر هي نفسها التي كان يحذر منها مصير بلد أحبّه إن استمر حكامه في سياستهم الخارجية دون مراعاة لأي اعتبار وطني أو عروبي.





مشتبكٌ مع الجميع

شكل ناهض هاجساً للسلطات والإسلاميين معاً بكتاباته وإطلالاته الإعلامية، فقد كان متصادماً تماماً معهما خاصة في سياساتهما حول الحرب على سوريا، وكان من المحللين القلائل الذين شخّصوا الدور الأجنبي في الربيع العربي مبكراً وما يراد منه (صدر له كتاب بعنوان «ربيع زائف»). وعندما بدأت بعض القنوات الخليجية بالتحريض ضد الدولة السورية، وضع يده على قلبه، كما يقول، وحذر من الآتي، بل تنبأ باغتياله مضيفاً جملته الشهيرة: «أخجل من نفسي لأنني لست شهيداً».
وفي مقالة له بعنوان «اليسار، لاسترداد الله (العدد ١٩٣٠ في ١٣ شباط ٢٠١٣)، كتب: «منذ صيف 2011، حين صعد الإسلام السياسي الجماهيريّ، وانتشرت التهديدات ضدّ المخالفين في الرأي والسياسة، ضد اليساريين والقوميين والنصارى، عملاء دمشق والشيعة وحزب الله وإيران، الخونة والكفّار والصليبيين... مذ ذاك، لم أردّد قصيدة حسن عبد الله النورانية، ولم يعد لديّ اليقين بأن الله سينتظرني في المستشفى إذا هاجمني البلطجية؛ فبلطجية الربيع العربي ليسوا كبلطجية النظام العربي ــ وإنْ كانت أساليبهم واحدة ــ إنهم محصّنون إلهياً، لهم الحق اليهودي المطلق في ذبح الأغيار، ومنع الله من مساعدتهم أو مواساة ذويهم؛ فالله رهينة في قبو من قبائهم، مقيد بالسلاسل تحت حراسة مشددة لإحدى التنسيقيّات».








اعتذارٌ فات أوانه


عام 2010 أُقحمت في موقف مسيء لناهض حتر. كنت أقدم برنامج «ابن البلد» على إحدى القنوات المحلية، وكان ناهض آنذاك الكاتب اليساري الأبرز، والمحلل المشتبك مع خصومه على الساحة من إسلاميين ومع من كان يصنفهم بعملاء إسرائيل في الديوان الملكي. ورغم الموقف الحاد ضده في أوساط من أعمل معهم، اتصلت به، وطلبت أن يكون ضيفي لأحاوره بعين الناقد المستشكل، فوافق بسرور. لكنني أخفيت عن رئيس التحرير هناك حلمي الأسمر، من هو الضيف حتى نصف الساعة الأخيرة من بث الحلقة. وقبيل الحلقة، رفضت الإدارة استضافة حتر رغم تعهدي بحوار متوازن ألقي فيه كل الشبهات في وجه ناهض. اعتذرت للضيف في الدقائق الأخيرة ودموعي الخجلة في عيني، ثم رافقته إلى الخارج دون أن أتمكن من تقديم الضيافة إليه، وأخبرته بالذي حدث بيني وبين الإدارة، فابتسم متفهماً، ومستغرباً في الأساس دعوته للظهور على تلك القناة.
لبعض الوقت، تبادلنا أطراف الحديث في الخارج، وسألته عن اتهامه بمعاداة كل ما هو فلسطيني في الأردن. بداية أكد لي أنه لا يمانع منح الفلسطينيين المقيمين في المملكة الحقوق الاجتماعية والمدنية وتقديم التسهيلات في التعليم والصحة، لكنه ضد المناداة بحقوق سياسية لكتلة فلسطينية داخل القطر الأردني، «لأن في ذلك محاصصة لا تخدم إلا العدو الصهيوني... وإلغاء حق العودة لأكبر عدد من اللاجئين في المملكة». وأضاف: «أنا ضد التفريط بمنح أبسط الحقوق كما في لبنان، وضد التجنيس على مصراعيه كما في الأردن»، مثنياً على طريقة السوريين في التعامل مع الفلسطينيين. هذا الذي ما زلت أتذكره من كلام ناهض، وأقنعني بدرجة كبيرة، وأحببت إيراده هنا للتاريخ.
... عبد الرحمن