أيلول اليوم طرفه مبلول حتى العظم، مبلولٌ بما يبذله الوالدون من ماء الوجوه على عتبات المدارس الخاصة، تضرّعاً وتوسّلاً واسترحاماً.أعرف مسبقاً أنّ كل ما أسوقه من كلام في هذا المجال سيذهب أدراج الرياح لأن ما كُتِبْ قد كُتِبْ، ولأنّ «حجّة الأقوى هي الأصحّ»، كما قال لا فونتين، في عصر الذئاب بلا منازع.

هناك، في إحدى المدارس أو المسالخ، تقدمت إحدى السيدات، وهي أمٌ لأربعة أولاد، من مكتب التسجيل للعام الدراسي الجديد وقد تسلّحت ببعضٍ من ثقافة أو ربما قد نُمِيَ إليها ما تطرّق إليه السينودس من أجل لبنان، فتوجّهت إلى المسؤولة عن الأقساط المدرسية بالقول: «بيقول البطرك إنو لازم الولد الرابع يتعلّم ببلاش». فاستشاطت غيظاً تلك الحريصة على أموال المؤسسة (التربوية) ورمتها بجوابٍ فيه من اللؤم ما لو وقع على دالية لأيبسها في الحال: «أي روحي يا عيني علّمي ولادك عند البطرك». فأفحمتها بالضربة القاضية. وهنا تدخلت إحدى الإداريّات حفاظاً على ما تبقى من كرامة «الزبونة»، وخوفاً من تداعيات ما قد يصل إلى مسامع «البطرك»: «اسمعي مني، خدي ولادك عالمعارف»، وهي تقصد بذلك المدرسة الرسميّة. وهنا، أُسْقِطً في يد المرأة الأم ، فلملمت دموعها ومضت. ولست أعلم من ثَمَّ ما فعلت المسكينة تلك.
وللتاريخ نقول أن جُلَّ هاتيك المؤسسات التربوية الخاصة إنما كان الهدف منها تبشيريّاً بالدرجة الأولى ومن ثمّ النهوض بأبناء الطائفة، معرفة وعلماً وثقافة. فمذ عاد تلامذة المدرسة المارونية في روما إلى الوطن الأم، انتشرت حُمّى تأسيس المدارس المارونية في الجبل اللبناني، فجُعِلَتْ الأوقاف لهذه المدارس لتقوم بواجباتها تجاه أبنائها ممن يعانون الفقر والعوز وجُلُّ الجبل في تلك الأيام فقيرٌ معوَز.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر استَعرَ التبشير في الجبل اللبناني وراحت الإرساليات تتناتش «المؤمنين» كل إلى الحظيرة الأفضل، ونذكر بالأخصّ البعثات البروتستانتية ومنافساتها اللدودة في البعثات اليسوعية، ناهيك عن المدارس المارونية المتوجّسة خيفةً من تشتّت قطيع الربّ. في ظل هذا التنافس المحموم كان لأبناء الجبل ما كان من الإستفادة من التعليم المجّاني حتى برع العديد منهم في شتّى الميادين.
أما اليوم وقد أصبحت غَيرة التبشير في خبر كان ، فلقد هرولت هذه المؤسسات لتنضم ّ إلى خدمة الرب الثاني الذي طالما خاف منه «الرب يسوع» فحذّر مسبقاً من عبادة ربّين إثنين.
وهكذا لم يبق من مجّانية مدارس الأمس سوى كتابةٍ دارسة على لوحةٍ رخاميّةٍ عتيقة متّكئةٍ على حائطٍ قديم وقد غشيها العشب.
وعندما سُئِلَتْ إحدى الرئيسات في ذلك، لم تتورّع عن الإجابة جِهاراً ومن على شاشة التلفزيون: «نعم نحنا مدرسة خمس نجوم، والتعليم المزبوط بيكلّف!». أما زميلتها إحدى ملفانات الكنيسة فقد قالت صراحة للأب مجدي علاوي هذا «الأسيزي» الآخر، في معرض سؤاله لها عن الزيّ المدرسيّ وتغييره كل سنتين: «بدل ما تنتقدنا يا أبونا تفضّل ساعد المدرسة الكاثوليكية». فاغرورقت عينا الأبونا بالدموع وصمت، وربّما كان بودّه الإعتذار أيضاً.
حسنٌ... لكم الحق على المستوى التجاري في ما تعملون ولكن على المستوى الروحي التبشيري فهذا شأنٌ آخر... أما نحن فحُقَّ لنا أيضاً أن نسأل القيّمين على هذه الإمبراطوريات «التربوية»: أين أنتم من رسالتكم الأمّ، أعني الإنسان الذي على صورة الله؟ أين أنتم من «مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا»؟ أما خجلتم من الأم تريزا وقد رُفِعت على مذابح القداسة لا لشيءٍ إلا لأنها تماهت مع الفقراء، هؤلاء الذين تُغلقون أبواب مدارسكم في وجوههم؟
يخبرنا سِفر أعمال الرسل في العهد المسيحي الأول، أن الإخوة كانوا يأتون بكل ما يملكون فيضعونه عند أقدام الرسل ليُصارَ إلى توزيعه في مساعدة الإخوة المعوزين في الجماعة المسيحية الأولى، ومنذ ذلك الحين، وُلِدَ ما يُعْرف بالأموال الكنسيّة، فما بالُها هذه الأموال اليوم وقد أصبحت حكراً على مؤسساتكم الدينية وهي أموال المؤمنين المعوزين في كلّ قطرٍ وناحية؟
الفا سنةٍ مرّت على مجيء يسوع إلى هذه الأرض وما زال الفقر يزداد فقراً، والظلم يتلوّن بألف لونٍ ولون، والعدل ما زال مفقوداً وفقراء (جبل التطويبات) لا يزالون ينتظرون الفرج، والرحمة التي شئتها لم تُفْرِخ إلّا ذبيحة، دائمة، مستدامة.
ففي الخارج نُذبَحُ لأننا على اسمك ، وفي الداخل نُذبَح باسمك، ونُساق كالشياه من مدرسةٍ هنا إلى مستشفىً هناك إلى محكمةٍ هنالك. وفوق ذلك كله لا يريدون لنا هجرةً، فلا سماء جديدة ولا أرض جديدة.
عفوك سيدي
ألفا سنة مرّت، ولكأنك لم تأتِ أبداً ...
أما بشأن الإيمان الذي تساءلت عنه يوم قلت: «وعندما يعود ابن الإنسان أتراه يجد الإيمان على الأرض؟»، فيؤسفني أن أسألك بدوري: «ألم تكن في ذلك، حالِماً أكثر من اللزوم يا سيّدي؟».
* مهندس