مرّ الاستفتاء في «إقليم كردستان» بهدوء تام. بالشكل، نجح مسعود البرزاني في إمرار اليوم الانتخابي من دون حوادث داخلية وبنسبة تصويت عالية حسبما أراد المنظمون. هذه «النسبة» ليست الامتحان الأصعب أمام الزعيم الكردي الذي نجح في لمّ شمل القوى الكردية المختلفة في هذا الاستحقاق، بل ما ينتظره من ردود فعل من بغداد أولاً ودول الإقليم ثانياً.
لذلك، سيطر على المشهد الانتخابي الرسائل السياسية والميدانية التي وجهتها السلطات العراقية ودول الجوار إلى أربيل. حتى أمس، لم تتجاوز هذه الرسائل حدود التهديد والتحذير، وسط توقّع مصادر متقاطعة أن ترفع حكومة حيدر العبادي من حدّة لهجتها في الساعات المقبلة لترقى إلى مستوى التطبيق، بالتوازي مع نيّة أنقرة وطهران تنفيذ «العقوبات التأديبية» بحق أربيل والبرزاني. فالأخير، رغم أنه توّج نفسه مجدداً زعيماً لأكراد العراق، «نجح» في وضع القوى العراقية المختلفة في خندقٍ واحد ضدّه يرفض «تفتيت العراق» وخلق كيان مصطنع جديد «حَبْله السري» في تل أبيب

دون أي صدامٍ يذكر، وفي موعده المحدّد، مرّ استفتاء انفصال «إقليم كردستان» عن العراق هادئاً. الساعات الـ 72 المقبلة ستمرّ ثقيلة على بغداد، ريثما تخرج أربيل بـ«نتائج التصويت النهائية»، وفق بيان «المفوضية العليا للانتخابات في الإقليم».
وبعيداً عن النتائج وتداعياتها، فإن الاستنفار السياسي الكبير الذي شهدته «عاصمة الرشيد»، أمس، يؤكّد امتلاك السلطات العراقية حزمةً من الإجراءات و«البنود التأديبية» ستفرضها على أربيل، وستظهرها تباعاً وفق مصدر حكوميٍّ مطّلع، كعقابٍ لـ«الإقليم» ورئيسه مسعود البرزاني، الذي كان أوّل المقترعين أمس.
نجح البرزاني في «لم شمل» الأفرقاء العراقيين، وجمعهم على موقفٍ واحدٍ رافضٍ لـ«الخطوة الانفصالية»، في ظل دعوات عدّة، من مختلف الجهات ــ السياسية منها والعسكرية والأمنية، إلى الانتقال لتنفيذ التحذيرات السابقة، التي لم يكترث لها زعيم «الحزب الديموقراطي الكردستاني». وجاء موقف زعيم «التيّار الصدري» مقتدى الصدر، متناغماً مع موقف غريمه نائب رئيس الجمهورية نوري المالكي، الرافض لخطوة البرزاني، إذ دعا الرجلان الحكومة الاتحادية إلى مواجهة المشروع الانفصالي. وطالب الصدر بأن تكون القوات الأمنية العراقية في «حالة تأهّب»، داعياً الحكومة إلى «السيطرة على المنافذ وحماية حدود البلاد». ووصف الصدر الاستفتاء بـ«مثابة ليّ ذراع للحكومة المركزية، بل وللعراق برمته شعباً وحكومة»، مضيفاً أن «أكراد العراق، وبالأخص بعض قادتهم، ارتكبوا خطأ وتجاوزوا الحدود، فالظرف يستدعي لملمة الشمل وتناسي بعض الأمور».

انتشار عسكري
للجيش وفصائل «الحشد» في المناطق المتنازع عليها

بالجملة، كانت الرسائل التي تلقفتها أربيل، أمس، سياسيةً وميدانية، بدءاً من مطالب مجلس النواب العراقي، والتحذيرات الإقليمية والدولية الجديدة، وصولاً إلى المناورات المشتركة التي انطلقت بين أنقرة وبغداد عند الحدود المشتركة بين البلدين، مروراً بالوجود العسكري ذي الدلالات الواضحة، للجيش العراقي وفصائل «الحشد الشعبي» والمقاومة العراقية في المناطق المتنازع عليها مع «الإقليم».
محلياً، طالب البرلمان العراقي رئيس الوزراء حيدر العبادي بنشر قوات في كل المناطق المتنازع عليها، فيما أمر رئيس الحكومة الأجهزة الأمنية بحماية المواطنين في المناطق الواقعة تحت سيطرة «الإقليم».
ووصف رئيس البرلمان سليم الجبوري الاستفتاء الكردي بأنه «خطأ تاريخي، وإجراء غير قانوني ومعدوم الأثر قانوناً»، داعياً جميع الأطراف إلى «اتخاذ كل الإجراءات القانونية من أجل الحفاظ على وحدة العراق». وقال إن البرلمان «عازم على تبني كل التوجهات الضرورية للحيلولة دون الوقوع بخطأ تاريخي قد يؤدي إلى تقسيم العراق وتهديد وحدته».
وكشف النائب عن «ائتلاف دولة القانون» جاسم محمد جعفر، والمقرّب من العبادي، عن نسخة معدّلة لقرار صوّت عليه في المجلس النيابي، تضمنت فقرة إضافية تُلزم البرلمان بمفاتحة «المحكمة الاتحادية العليا» (أعلى سلطة قضائية في البلاد) لإعفاء الرئيس فؤاد معصوم من منصبه، وفق «المادة 61 سادساً ب» من الدستور العراقي لـ«حنثه باليمين الدستورية»، لافتاً إلى أن «المادة المضافة سيتم التصويت عليها في جلسة الغد».
وصوّت البرلمان على إجراءات عقابية ضد «الإقليم»، طالت قطاع النفط والشركات المتعاملة به، إذ دعا «الادعاء العام العراقي» إلى إبعاد وملاحقة جميع الموظفين والمسؤولين الحكوميين من الأكراد، الذين شاركوا ودعموا الاستفتاء، وقد نقلت مصادر عراقية عدّة عن توجه الحكومة لـ«توجيهات رسمية للجهات القضائية لمتابعة الأموال المودعة في حساب الإقليم، وسياسيين أكراد من واردات بيع نفط الإقليم». وأضافت المصادر أن «البرلمان صوّت على دعوة الحكومة لإعادة حقول النفط في المناطق المتنازع عليها، بحيث تبقى تحت إشراف وسيطرة وزارة النفط العراقية».
وشرعت الحكومة العراقية، أمس، في تنفيذ قرارات «المجلس الوزاري للأمن الوطني» التي اتخذها أوّل من أمس، حيث بدأت بغداد بالتنسيق مع الدول المعنية لإيقاف التعاون مع «الإقليم» في ما يتعلّق بالمنافذ الحدودية والمطارات وتصدير النفط.
بدورها، أغلقت إيران أجواءها مع «الإقليم»، إذ أعلن الناطق باسم وزارة الخارجية بهرام قاسمي، «إغلاق طهران للمجال الجوي أمام الإقليم استجابة لطلب من الحكومة العراقية»، واصفاً الاستفتاء بـ«غير القانوني وغير المشروع».
من جهته، حذّر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من أن بلاده ستغلق الحدود مع «الإقليم» في كلا الاتجاهين خلال الأيام المقبلة، معتبراً الاستفتاء «غير شرعي، وغير مقبول». وأكّد مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، «ضرورة وحدة الأراضي العراقية والسورية»، في اتصال هاتفي بحثا خلاله تداعيات الاستفتاء.
ولوّح إردوغان، بـ«إغلاق خط أنابيب نقل نفط الإقليم، الذي يمر عبر تركيا، إلى الخارج»، قائلاً: «فلنرَ بعد اليوم لمن سيبيع الإقليم الكردي في العراق النفط؟ الصنبور لدينا، وعندما نغلقه ينتهي الأمر». ونقلت وكالة «الأناضول» عن الرئيس التركي قوله «سنفصح عن تدابير أخرى خلال الأسبوع الجاري... وسنتخذ كل الإجراءات اللازمة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية»، نافياً وجود أي تسوية بين أنقرة وأربيل.
أما رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، فقد أشار إلى أن حكومته شكّلت فريقاً من الوزارات المعنية، لدراسة تفاصيل الخطوات التي ستُتخذ في ما يتعلق بالمجال الجوي والمعابر الحدودية، مؤكّداً «أننا لن نتأخر في ذلك»، في وقتٍ قالت فيه الخارجية التركية في بيان إن «أنقرة لا تعترف باستفتاء الانفصال، فهو فاقد لكل أنواع الشرعية والأسس القانونية، سواء بالنسبة إلى القانون الدولي أو إلى الدستور العراقي».
وفي رسالة ميدانية واضحة، أعلنت رئاسة الأركان العامة التركية أن «المرحلة الثالثة من المناورات الجارية قرب الحدود العراقية ستنطلق غداً (اليوم) بمشاركة قوات عراقية»، وأضاف البيان «هذه المرحلة من المناورات تجرى بالمشاركة مع وحدات تابعة للقوات المسلحة العراقية، التي وصلت إلى المنطقة مساء اليوم (أمس)».
بدوره، اعتبر رئيس هيئة الأركان للقوات المسلحة الإيرانية، اللواء محمد باقري، أن قضية الاستفتاء «مؤامرة تقف وراءها إسرائيل»، منتقداً «إجراء سلطات كردستان العراق للاستفتاء».
وكان لافتاً أمس، تصريح قائد قوات «البشمركة» الجنرال سيروان البرزاني، وتقديره للدعم السياسي الإسرائيلي لأربيل. وقال في حديث إلى وكالة «نوفوستي» الروسية، إننا «نمر الآن بحالة معقدة للغاية، إذ نشاهد اليوم المرحلة الانتقالية في تاريخ الأكراد»، لافتاً إلى أن أربيل «لن تنسى أولئك الذين قدموا لنا دعماً جدياً، ومن بينهم إسرائيل... فدعمها سياسي ومعنوي، ونحن ممتنون لرئيس الوزراء الإسرائيلي على هذه المساعدة».
ومع إقفال صناديق الاقتراع، أعرب وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، عن رفض بلاده للاستفتاء، لافتاً إلى أن «المملكة المتحدة لا تؤيد هذا الاستفتاء وتواصل الدفاع عن سيادة العراق ووحدة أراضيه»، بالتوازي مع تجديد البيت الأبيض تأكيده على أمل واشنطن بأن «يتم الحفاظ على وحدة العراق من أجل القضاء على داعش والتصدي لإيران».
(الأخبار)