كالعادة، اختلط الحابل بالنابل، كما يحدث في معظم القضايا التي تصبح محط تجاذب بين بعض روّاد مواقع التواصل الاجتماعي والإعلاميين وناشطي المجتمع المدني في لبنان. القضيّة اليوم لا تتعلّق بالحرّيات أو الرقابة أو بتقييم أفلام زياد دويري، ولسنا في وارد الدعوة إلى مقاطعتها أو منعها. هناك إجماع على رفض الرقابة على الأعمال الفنية. مطلب مشترك لدى الجميع على اختلاف توجّهاتهم السيّاسية. المسألة الرئيسيّة ببساطة هي «التطبيع مع العدو»، التي يحق لأي لبناني استنكارها بغض النظر عن الأسلوب. زياد دويري مواطن لبناني أوقف بسبب إقامته في الأراضي الفلسطينية المحتلة لمدّة 11 شهراً، حيث صوّر فيلمه «الصدمة» بمشاركة إسرائيليين. يُفترض أنّنا ندرك أنّ «إسرائيل» كيان معادٍ، والتطبيع معه، مهما كانت الأسباب، جريمة يجب أن يعاقب عليها القانون.
ضاعت البوصلة وتشتّت النقاش، إلى حد ابتداع أفكار سورياليّة، تطلب حصانة لجميع الفنّانين والمبدعين، يحق لهم بموجبها ما لا يحق لغيرهم من البشر، ولو تنافى الأمر مع جميع الأعراف والقوانين، بحجّة «الدواعي الفنيّة»! أمّا المطالبة بعزل الفنانين المبدعين وتحييدهم عن واقع الصراعات السياسية في المنطقة، فسورياليّة أيضاً ويمكن اعتمادها في حالة واحدة فقط: حين يكفّ الفنانون عن تناول مواضيع السياسة والمجتمع والمواطن والإنسان والتاريخ والجغرافيا والحب والوجود في عالمنا العربي!
نتناسى أنّ الفن عموماً والسينما خصوصاً لا يمكن فصلهما عن الأخلاق والمسؤوليّة في التعامل مع جميع القضايا. هناك ميل إلى تسطيح الموضوع وزج الحجج الواهية لتمييع القضيّة، كـ «الغيرة» من نجاح الفيلم و«تربّص الأشرار لتفشيل الإنتاجات السينمائيّة اللبنانية» و«تشويه» فخر الصناعة الوطنيّة! مع أنّ الواقع يثبت العكس، بما أنّ تجارب سينمائية كثيرة سبق أن حظيت بإجماع ودعم على مختلف المستويات، منها فيلم دويري الأوّل «وست بيروت». كل هذا لا يبرّر الهجوم السافر على مقاطعي الكيان الصهيوني الذين يتناولون الموضوع من منطلق إنساني وأخلاقي ونضالي وسياسي مقاوم. من المؤسف أن نشعر بأنّ هذه الشعارات ما عادت على الموضة وتمسّ بحريّة الآخر.

نتناسى أنّ الفن عموماً لا يمكن فصله عن الأخلاق والمسؤوليّة في التعامل مع جميع القضايا (ديالا قشمر)


أما دولتنا العظيمة التي تعاني من فصام، وغابت عن الوعي لأربع سنوات، قبل أن تختار هذا التوقيت بالذات لتوقيف دويري، ثم تبرئته، فهي نفسها الدولة التي أرسلت وزير ثقافتها ليبارك السجادة الحمراء لـ «قضية رقم 23» في «مهرجان البندقيّة السينمائي الدولي» مع فريق وزارته محاطاً بالإعلام اللبناني، وكافأت موقوفها بترشيح فيلمه لتمثيل لبنان في الأوسكار، في الوقت الذي تتغافل فيه هذه الدولة عن عشرات الإنتاجات اللبنانيّة التي وصلت إلى العالميّة أيضاً و الجديرة بالدعم و الترشيح.
هذه الدولة التي تتبجّح بدعم السينما اللبنانيّة التي وصلت للعالميّة، لم تقدم دعماً ولو بالحضور أو حتى بالإتيان على ذكر فيلم لبناني آخر كان قد اختير من بين مئات الأفلام العالميّة، ليحظى بدعم البينالي دي فينيس-Biennale di Venezia وكان افتتاحه أيضاً في مهرجان البندقية. كذالك فعل مشكوراً الإعلام اللبناني الذي حضر المهرجان. أتحدّث عن فيلم «شهيد» من إخراج مازن خالد وإنتاجي، بمشاركة مبدعين لبنانيين من ممثلين و فريق عمل. ليس بوسعي إلا أن أهنّئ دويري علي «قضيّة رقم 23»، المستفيد الأوّل في هذه القضيّة هو الفيلم، لأنّ الضجة التي أثيرت حوله ستساعد في انتشاره وزيادة حظوظه. و إذا كانت هذه الضوضاء تبث روح الحماسة لدى الجمهور اللبناني لمتابعة السينما المحلية، فما علينا إلّا شكر السلطات اللبنانية التي ساهمت في هذه البروباغندا! وتهنئة الفنانين والسينمائيين على بيانهم الذي ضرب على وتر حريّات التعبير، ليتسابق الفايسبوكيون والمجتمع المدني على التطبيل والـ «هوبرة» ببروباغندا الكليشيهات!