أياً يكن النظام السياسي الذي يحكم الأردن، وتوجهاته الإقليمية والدولية، يبقى لهذه الدولة موقعها المتقدم جداً في أولويات الأمن القومي الإسرائيلي. ويعود ذلك إلى الحدود الطويلة للدولة مع فلسطين المحتلة، نحو 400 كيلومتر، وكون الأردن يُشكِّل منطقة عازلة عن المحيط المعادي لإسرائيل.
من هذا المنظور، إنّ أيّ انهيار أو ضعف للنظام الأردني يمكن أن يؤدي إلى «تغيّر الوضع الاستراتيجي لإسرائيل بين عشية وضحاها»، كما يعبّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في كتابه «مكان بين الأمم». وانطلاقاً من هذا المفهوم، كان الموقف الإسرائيلي الدائم أنّ دخول قوات معادية لإسرائيل إلى الأردن هو بمثابة إعلان حرب.
هذا التوصيف لا ينفي حقيقة وجود تباينات وخلافات بين الطرفين، تتصل بالموضوع الفلسطيني والتسوية النهائية. لكن على المستوى الاستراتيجي، يتعامل الكيان الإسرائيلي مع الأردن على أنّه صمام أمان لأمنه القومي. وترى إسرائيل نفسها أنّها قوة احتياط لنجدة النظام الأردني في مواجهة أي تهديد استراتيجي، بينما يرى الأخير أنّ ديمومته وأمنه واستقراره تكمن في المحافظة على معاهدة السلام القائمة بين الطرفين.
في ضوء هذه الخلفية الجيوسياسية، يسود في تل أبيب مفهوم أنّ الأردن هو الحليف الأهم لإسرائيل في الشرق الأوسط، إذ منذ «عشرات السنين» وهما يتقاسمان المصالح المشتركة، ويتعاونان أمنياً في الحفاظ على الحدود والتنسيق الاستراتيجي في مواضيع مختلفة.
مع ذلك، فقد كان الأردن جزءاً من الجبهة الشرقية المعادية لإسرائيل، وشارك في حربَي عام 1948 وعام 1967، وشكّل معبراً لمرور قوات عراقية للمشاركة في الحرب ضد إسرائيل. ولكن حتى في تلك الفترات، لم يكن الأردن يُشكِّل بذاته تهديداً استراتيجياً لإسرائيل، وذلك بفعل محدودية قدراته العسكرية وصغر جيشه، ولأسباب أكثر جوهرية تتعلق بحقيقة التوجهات الاستراتيجية للنظام الأردني. وتتحدث تقارير ودراسات إسرائيلية عدة عن الكثير من الحالات التي تمّ فيها تعاون استخباري بين البلدين، وذلك حتى قبل قيام العلاقات العلنية بعقود. من بين تلك التقارير، ما يتناول أدواراً إسرائيلية استخبارية ساهمت في الحفاظ على النظام الأردني.
من بين أبرز المحطات التي تعكس موقع الأردن في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي، التهديد بالتدخل العسكري المباشر في عام 1970، وذلك إذا لم تنسحب القوات السورية التي دخلت إلى الأردن خلال المعارك بين النظام الأردني والمقاومة الفلسطينية.
بعيداً عمّا يتعلق بالقضية الفلسطينية، لم يكن هناك قضايا معقدة تحتاج إلى حلول من أجل التوصل إلى تسوية سلمية بين الطرفين. إنّما على الدوام، كانت النظرة الإسرائيلية تجاه النظام الأردني على أنّه الأكثر استعداداً من بقية الأنظمة لعقد مثل هذه التسوية. لكن موازين القوى العربية في مراحل سابقة، وارتباطها الوثيق بالقضية الفلسطينية، حالت دون ترجمة هذه الخصوصية إلى اتفاقية سلام في وقت أبكر. من هنا، بدا مفهوماً أن تكون الخطوة التالية بعد التوصل إلى اتفاقية أوسلو في أيلول 1993، عقد اتفاقية سلام بين الأردن وإسرائيل في السنة التالية.
المحاولة الأبرز لترجمة الخصوصيات الأردنية إلى معاهدة سلام، قبل وادي عربة، كانت اتفاقية لندن عام 1987، التي تمّ التوقيع عليها بين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز، ومعه المدير العام لوزارة الخارجية يوسي بيلين، مع الملك حسين، ورئيس حكومته زيد الرفاعي. لكنّ الذي حصل أن «حزب الليكود» برئاسة إسحاق شامير، في ذلك الحين، رفضها وأسقطها.
من بين أهم ما يُميّز اتفاقية وادي عربة عام 1994، أنّها وفرت «الغطاء القانوني» لتظهير العلاقات القائمة فعلياً بين الطرفين، والانتقال بها إلى مستويات إضافية. ومن هنا، يُلحظُ حضور الأردن ــ موقعاً ودوراً ــ في كلّ استراتيجية إسرائيلية إقليمية لمواجهة التحديات والتهديدات الإقليمية، وهو العنوان الذي يتظلّل به النظام الأردني لأيّ دور جيوسياسي.
تفرض الخصوصية الجيوسياسية للأردن دوراً مركزياً في مستقبل القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. فهو يشكل مدخلاً رئيساً لأي سيناريو يتم رسمه لمستقبل الواقع الفلسطيني، سواء لمصلحة خيار المقاومة، أو لاحتوائها وخنقها. وهو خط الدفاع الذي تختبئ خلفه إسرائيل في مواجهة أيّ تطورات على الجبهة الشرقية (وهو مفهوم يظهر بقوة على ألسنة القادة الإسرائيليين)، والقناة الأهم لتدفق مفاعيل أيّ مسار إقليمي باتجاه فلسطين.
ومع أنّ إسرائيل كانت ولا تزال على استعداد للتدخل المباشر في مواجهة أيّ تطور يهدد النظام الأردني بشكل جديّ، إلا أنّها في الوقت نفسه لا تخفي مخاوفها من أيّ تداعيات مستقبلية على الواقع الأردني. وهذا ما يُفسِّر إصرارها على تمركز الجيش الإسرائيلي في منطقة غور الأردن، الذي وصفه نتنياهو قبل أيام بأنه جزء من الحزام الاستراتيجي لحماية دولة اسرائيل، حتى في ظلّ تسوية نهائية مع السلطة الفلسطينية. والأمر نفسه ينسحب على قرار تسييج الحدود مع الأردن.
ومن بين أبرز المحطات الأخيرة التي عكست المخاوف الإسرائيلية إزاء الواقع الأردني، ما كشفته تقارير إسرائيلية عن لقاء جمع في مطلع السنة الجارية، رئيس أركان الجيش غادي ايزنكوت، والسفيرة الإسرائيلية في الأردن عنات شلاين، التي قدَّمت تقريراً متشائماً بشأن استقرار النظام. ونتيجة هذه الجلسة، أعرب ايزنكوت في جلسة مغلقة مع دبلوماسيين، عن قلقه من الأقوال والتقديرات التي سمعها من السفيرة، مؤكداً أنّه «إذا اقتضت الحاجة والضرورة، فإسرائيل مطالبة بدعم صديقتها بالطرف الشرقي ومساندتها».