الفروض المنزلية هي واحدة من أهم مصادر النزاع بين الأهل والأبناء. فالأولاد يشعرون بالنفور من مجرّد ذكر اللفظ أمامهم. الواجب أو الفرض يعني بالضرورة شيئاً إلزامياً يجب أن يعودوا به يومياً إلى البيت وليس من ينظر ما إذا كانوا سيقومون به بحب وفرح وقناعة. المغالاة في «ترس» الأجندة المدرسية بالواجبات كفيلة بتحويل الدرس إلى وسيلة عذاب للأهل وشكل من أشكال العقاب غير المبرر للطفل.
فالساعات التي يقضيها على مقعده في المدرسة، والأخرى الموازية بين يدي أمه أو أبيه أو معلم/ة خصوصي/ة لإنجاز «عمل شاق» تختلس بالضرورة من وقت يفترض أن يمضيه في اللعب والتواصل الأسري ونشاطات أخرى هامة لنموه المعرفي والنفسي.
المشهد في يوم دراسي عادي هو كالآتي: يستيقظ الطفل في الصباح وهو متعب. يذهب متثاقل الخطى إلى مدرسته حيث يمضي 6 ساعات من التركيز على الأقل ليعود عند الثالثة ظهراً محمّلاً أيضاً بهموم الدروس والفروض. يمر وقت مستقطع قصير مخصص عادة لوجبة الغداء قبل أن يتقمص الآباء والأمهات دور الشرطي ويجبرونه على «حفظ» الدروس و«التسميع». يجلسون وإياه حتى يتم إنجاز كل ما كتب على الأجندة. الأطفال في هذه الحالة يتحولون إلى «خبراء» في المراوغة والاستفزاز. أما الأهل فبعضهم يقرر المواجهة وسرعان ما يتولد النزاع وتتحول الفروض إلى ساحة معركة يومية. بعضهم الآخر يختار راحة البال ويرفض دخول المعركة أصلاً، لكن يستسهل حلّ الفروض نيابة عن الطفل، وهنا يطير الهدف الأساسي من الواجب وهو تحسين طاقات التلميذ الشخصية، وتنمية قدرته على التعلم الذاتي.

الأهل متعبون وضائعون

تحتار الأم لين اسماعيل كيف تتعاطى مع هذه المعضلة، كما تسميها. تبدو مقتنعة بأنّ مدرسة أولادها من المدارس المرموقة في لبنان ولا يعلى عليها أكاديمياً واسمها معروف، لكنها تشعر بأن الحياة تتوقف عند الفروض. تقول: «أولادي مخنوقون وما عم بياخدوا نفس، إيام بيعطوهم 13 شغلة بنفس اليوم وامتحانات وفروض بنفس المادة. ما عم بعيشوا أحلى سنين عمرهم». تقرّ لين بأنها متعبة وضائعة، لكن «بصراحة أخشى أن أسجلهم في مدرسة أقل مستوى لئلا يضيعوا».
سوزان بدر الدين التي توافق على أن الفروض بشكلها الحالي عبء لا طائل منه، تعتقد أننا «في لبنان غير مهيئين للوصول إلى مرحلة الاستغناء عن الفروض. تسأل: «إذا كان هناك 30 تلميذاً بالصف كيف بتأكد انو ابني أو ابنتي استوعبت المعلومة؟». لا تتردد سوزان في القول إنها تتبع مع أبنائها الطريقة نفسها التي كان أهلها يتبعونها معها «لازم أعمل check up يومي على كل شي. ما بعرف إذا طريقتي غلط أو صح».

الفروض لا تسمح للتلميذ بالتفكير خارج سياق المعلم


وإذا كان بعض الأهل يصرون على أن الفروض هي مكمل طبيعي لما يتم تعليمه في المدرسة، والطريقة الوحيدة للتأكد من أن ولدهم يتعلم فعلاً، يقول آخرون إنهم لا يدفعون كل هذه الملايين ليفتحوا مدرسة ثانية في البيت، فلينا القاضي مثلاً تعارض مبدأ الفروض بالمطلق، وتقول إنها جهدت لاختيار مدرسة تسمح لابنها، بالحد الأدنى، الاستمتاع بساعات بعد الظهر بأمور أخرى غير الدرس التقليدي مثل قراءة الكتب والأبحاث «برأيي مفروض الدرس يخلص بالمدرسة ويرجع الأولاد عالبيت بس يلعبوا أو يقرأوا كتب».

الفروض في ذيل القائمة

في الواقع، أزمة الواجبات المدرسية هي مسألة عالمية، وقد أعدت حولها آلاف الدراسات والأوراق البحثية، حتى أنّ دعوات عدة خرجت في العقود الماضية لإلغائها نهائياً أو حصرها داخل المدرسة فقط. وقد طالبت منظمة الصحة العالمية، أخيراً، بشطبها من جميع النظم التعليمية، لغياب أي دليل في الدراسات التحليلية على أنّ الواجبات تسمح للأولاد بأن يكونوا تلامذة أفضل. فقد وجد هاريس كوبر، عالم النفس والأعصاب الأميركي، في بحثه في 180 دراسة أن للفروض تأثيراً سلبياً على مواقف الأطفال تجاه المدرسة وكيف يرونها. وأظهر بحثه أن المدة الزمنية المخصصة للفروض لا يجب في جميع الأحوال أن تتجاوز 10 إلى 15 دقيقة كحد أقصى في المرحلة الابتدائية، فيما يحصّل طلاب المرحلة الثانوية الاستفادة إذا كان العمل أقل من ساعتين ليلًا. إلى ذلك، جمع جون هاتي، أستاذ تربية نيوزيلندي، نتائج أكثر من 50 ألف دراسة شملت ما يزيد على 80 مليون تلميذ، في محاولة للتعرف إلى أفضل الطرق التعليمية التي تحقق أقصى استفادة للتلامذة. وخلص هاتي إلى وجود مجموعة من العوامل التي تؤدي إلى نجاح العملية التعليمية، ومن بينها بناء علاقة جيدة بين الأستاذ والتلميذ، إضافة إلى اتباع تقنيات تعليمية معينة، أما الواجبات المدرسية فجاءت في ذيل القائمة، ورأى أنها تساعد التلميذ بنسبة ضئيلة للغاية.
مع ذلك، يصعب مقاربة الفروض بـ «مع» أو «ضد»، فثمة أسئلة كثيرة يطرحها معلمون وباحثون تربويون للنقاش: هل يجب أن تكون هناك سياسة واحدة لإلغاء الفروض وفي كل المراحل التعليمية؟ ما هي نوعية الفروض التي يجب أن تعطى للتلميذ هل من الضروري أن يكون الفرض عبارة عن تمرين تطبيقي لمفهوم شرحه المعلم في الصف أم استقصاء لأمور أخرى، وهل يجب تحديد الوقت المخصص للفروض لتحقيق الاستفادة منها، ثم ما هي وتيرة إعطائها، يعني هل يعطى هذا النوع من الفروض كل يوم أو مرة أو مرتين في الأسبوع؟ وهل المعلمون قادرون فعلاً على إنجاز العملية التعليمية في الصف، وماذا عن الأهل لماذا يشعرون بهذا العبء الكبير؟

تلامذة الروضات أكثر المتضررين

بالنسبة إلى التربويّة الأستاذة إيمان حنينة، الفروض هي عبء لسبب بسيط: هو أن الأهل يفتقرون في كثير من الأحيان إلى طرائق التعليم الصحيحة، ولا يملكون الاستراتيجيات التربوية التي تعتمدها المعلمة في المدرسة، لذا يذهبون تلقائياً الى التلقين، ويستعينون بمعاهد خاصة بعد الظهر تساعد أولادهم في الدرس وحلّ الفروض. و«هنا بالمناسبة أود أن أطرح سؤالاً عن الحاجة إلى اللجوء إلى هذه المعاهد التي ينتعش سوقها، فعلى المدارس أن تنجز مهمتها ليكتسب التلامذة فيها معارفهم ومهاراتهم...». وتشير الأستاذة حنينة إلى ضرورة إنجاز التعلّم في الصف، وخصوصاً في السنوات الدراسية الأولى (الروضة الثالثة والحلقتين الأولى والثانية). المفارقة التي تتوقف عندها هي أنّ هؤلاء التلامذة هم الأكثر تضررًا من الفروض المنزلية التي تدخلهم عالم الكتابة والإملاء وحلّ التمارين الكثيرة المرهقة، فيبتعدون عن الإبداع والابتكار الى التطبيقات المملة التي يعمل عليها الأهل أكثر مما يعمل عليها الطفل. . إن فرض المنزل يجب أن يكون نشاطاً هادفاً، كأن يسأل التلميذ الجيران عن كلمات معينة أو يذهب إلى البائع ويسجل الأسعار، أو يسمع أغنية ويحفظها أو يحاول أن يحاكي بيتين من الشعر....

التواصل بين الأهل والمدرسة

الضياع الذي يشعر به الأهل يعزوه ثروت دباجة، مدير ثانوية القلعة الخاصة في صيدا، إلى أن التعلم في المدارس ليس مرتبطاً بالمنزل في كثير من الأحيان، بحيث لا يعرف الأب أو الأم ما هي بالضبط المعارف والمفاهيم والمهارات التي يتلقاها ولدهم في الصف، وهنا لا يكفي عقد اجتماع عام أو اجتماعين في الحد الأقصى يجمع كل الأهالي، بل يمكن التواصل بين الطرفين عبر تقارير دورية ترسل إلى المنزل وتشرح وضع التلميذ. اللافت ما يقوله لجهة أنّ المعلمين والتلامذة على السواء مهجوسون بالامتحانات الرسمية التي تأسرهم في عدد من السنوات.

ضحايا المنظومة التربوية

يوافق أنيس الحروب، رئيس قسم التربية في الجامعة الأميركية في بيروت، أنّ الفروض المنزلية لا يمكن أن تقارب بمعزل عن السياسة التربوية العامة. فالتلامذة والمعلمون والأهل هم جميعهم ضحايا لمنظومة ضاغطة تعتمد على تشعب البرامج وكثافة المواد، إذ «نريد لتلميذنا في المرحلة المتوسطة مثلاً أن يعرف كل شيء: العلوم واللغات والرياضيات والرسم والدراما لدرجة يصعب معها إيجاد صيغة للتنسيق بين معلمي المواد في إعطاء الفروض». يقول: «لست من الداعين إلى وقف الأعمال المنزلية بالمطلق لكوني أعتبرها مناسبة للتفاعل بين الأهل والأبناء، شرط أن لا يكون الهدف إغراق الطفل في فروض تجعله عبداً لها وتقتل التفكير الإبداعي لديه، فما يحصل حالياً وفي معظم المدارس هو عدم إعطاء التلميذ فرصة للتفكير بشكل مختلف عن المعلم أو خارج نمطه وسياقه».

تعلم أن تتعلم

«أنجح صور الواجبات المدرسية هي تلك التي تعتمد على مبدأ تعلم أن تتعلم»، تقول سكارليت صراف، أستاذة التقييم في كلية التربية في الجامعة اللبنانية، مشيرة إلى أنّ المطلوب تعليم وتدريب الطفل على وضع أهداف طموحة ومحاولة إنجازها خلال فترة زمنية محددة. برأيها، المشكلة لا تكمن في الواجبات المنزلية عينها، إنما بالطريقة التي يتم بها إرغام الأطفال على إنجاز تمارينهم وفروضهم، والتي غالباً ما يصحبها توتر وفتور قد يؤديان بهم أحياناً إلى التذمر من الذهاب إلى المدرسة.
تستدرك: «ليس للواجبات المنزلية أهمية كبرى إذا أحسن استخدام الفترة التي يقضيها التلامذة في مدرستهم، فالتعلم داخل الصف كاف لبناء شخصية الطفل معرفياً ونفسياً، فيما الفرض يستخدم كتشخيص لصعوبات تعلم فردية، ويمكن إعطاؤه لتثبيت المعلومة، وربط المدرسة بالمنزل وتنمية الشعور بالمسؤولية». وتلفت إلى أنّه «لا بد من أن تراعي تمارين الواجب الكم والكيف والتوازن».




التعلم بفرح

«الهدف الأساسي من التعلم أن يكون التلامذة سعداء وواثقين من أنفسهم»، تقول أستاذة علم النفس في الجامعة اللبنانية بيلا عون. برأيها، لا فائدة من الواجب إذا تحوّل إلى قصاص ولم يحفز الولد على القيام به بالفرح نفسه الذي يعيشه عندما يلعب مع أصدقائه. تذكر بأن لكل طفل قدرات معينة، وعلى الأهل والمدرسة أن يدركا هذا الأمر، فلا يصوّبون على أن تكون العلامات الجيدة هدفاً بحد ذاتها، «فالتركيز على تفوق الطفل قد يدمر حبه للتعلم».

* للمشاركة في صفحة «تعليم» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]