كان من المفترض أن يؤدّي الاتفاق النووي مع إيران إلى إطلاق حقبة جديدة من التعاون العلمي بينها وبين الدول الأخرى الموقّعة على الاتّفاق، في مقابل التنازل عن خطوات قد تسمح لها بإنتاج أسلحة نووية، بالإضافة إلى رفع الحصار المفروض عليها. وبعد مضي عامين على توقيع الاتفاق، لم تنطلق سوى مشاريع تعاونية قليلة ومحدودة تشكّل مقدمة للتعاون الأوسع الذي تجري محاولات لعرقلته الآن.
وقد أشار موقع "Science" المتخصص بأنّ الولايات المتّحدة قد جمّدت بالفعل، في كسر لمفاعيل الاتفاق النووي، مشاركة إيران في أكبر مشروع دولي طامح إلى السيطرة على تقنيات الانصهار النووي بهدف توليد الطاقة، وهو مشروع “ITER” الذي يقام في جنوب فرنسا بكلفة مليارات عدة من الدولارات، وبمشاركة دول متعدّدة. وهذا المشروع كنا قد أشرنا لأهميّته العلميّة والعملانيّة خاصة في مجال الطاقة النظيفة في مقالة مفصّلة سابقاً ("الاندماج النووي: شمس المستقبل" http://www.al-akhbar.com/node/267193).

العرقلة الأميركية لمشروع مهم

انضمام إيران مضى عليه شهور قليلة، وكان انضماماً محدوداً بصفة مراقب في هذا المشروع الدولي الطموح، أو شمس المستقبل كما أسميناه لتقارب طبيعة الانصهار النووي المزمع إجراؤه مع ما يحصل داخل شمسنا نفسها، ما يولّد طاقة نظيفة وذات كلفة ستصبح متدنيّة بعد بعض الوقت. ووفق رئيس وكالة الطاقة الذريّة الإيرانيّة، فالمشروع كان يسير بشكل جيّد قبل أن تتدخل إدارة الرئيس ترامب لإعاقة هذه العملية. وتملك الولايات المتّحدة إمكانية تعطيل انضمام إيران من خلال مجلس إدارة ITER الذي يجب أن يوافق بالإجماع على انضمام أي عضو جديد إلى المشروع.

الولايات المتّحدة جمّدت مشاركة إيران في أكبر مشروع
تعاوني دولي

ورغم أن النقاشات لم تنته حتى الساعة، وما زال هناك متّسع من الوقت حتى اجتماع المجلس المقبل في أواخر الشهر الجاري، غير أنّ الأجواء لا توحي باحتمالات إيجابيّة، وهذا من شأنه أيضاً أن يؤخّر المسار التفاعلي بين إيران والأوروبيين في مجال التعاون العلمي في الطاقة النووية السلمية وغيرها. وبالنسبة للإيرانيّين، فهم يأملون من انضمامهم إلى هذا المشروع التاريخي الواعد تدريب علمائهم فيه والقيام بدراسات حول "البلازما" المستعملة داخله لمصلحة المشروع. كما كان يطمح العلماء أن يكون انضمامهم بصفة مراقب مقدّمة للعضوية الكاملة التي كانت ستتيح لهم الوصول إلى كل الاختبارات الرائدة فيه.

تراجع الحماس

ومن المشاريع الأخرى المشتركة التي جرى الاتفاق عليها بعد توقيع الاتفاق النووي، منشأة منخفضة التخصيب للبحث العلمي في مفاعل "فودرو" داخل إيران. ويتضمن مفاعل فودرو نفقين يصل عرض أحدهما إلى 15 متراً ويحوي على أجهزة الطرد المركزي التي تخصّب اليورانيوم إلى حدود 3.67%، فيما تعمل إيران اليوم بالتعاون مع روسيا لإعادة تشغيل المفاعلات المتوقّفة وتصميمها لإنتاج النظائر المشعّة المستقرّة التي تستعمل في مجالات الطب مثل نظير الأيودين وغيره. وعلى الجانب الآخر يحتوي المفاعل على مركز فيزيائي نووي ومختبر متعدد الاستخدامات بقصد إجراء الأبحاث العلمية النوويّة، لكن لم تقم أي دولة من الدول الضامنة للاتفاق حتى اليوم بأي عمل ضمن هذا الإطار ولا يبدو أنّها متحمّسة لذلك، كما يبدو أن إيران تؤجل إطلاق هذا الجزء من المشروع بسبب تكاليفه واعتبارات أخرى مرتبطة بالاتفاق نفسه.
ومن المشاريع الأخرى التي يعمل عليها الإيرانيون مع الأوروبيين والتي ستتأثّر بخطوات ترامب هو مشروع "منشأة النور" التي تتضمّن مسرّعاً للجزيئات يعمل بتقنية الشعاع الضوئي يجري بناؤه في مدينة "تريستي" الإيطالية وسوف يعمل فيه عشرات العلماء والمهندسين الإيرانيين مع نظرائهم الأوروبيين وسيجري لاحقاً نقله إلى داخل إيران.
تعتبر كل هذه المشاريع من نتائج توقيع الاتفاق، وهي كلّها برامج صغيرة ومتوسّطة لكنّها تشكّل نقطة انطلاق في مجال التعاون العلمي بين دول العالم، ومن الواضح أن الخطوات التصعيدية في موضوع الاتفاق قد تعطّل العديد منها.




الاتفاق النووي

الاتفاق النووي تمّ توقيعه بإطار تسوية ضمنت للغرب إجراءات تمنع إيران من تطوير أسلحة نووية مقابل تحقيق إيران اعترافاً دولياً بحقها في استخدام العلوم النووية السلمية في مجالات الطاقة والأبحاث والطب، وهي تسوية أرضت طرفي الصراع حول هذه القضية ولعبت فيها روسيا والصين دوراً وسيطاً من داخل مجموعة الخمسة + 1 وتشمل إليهما أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا. وأهم ما جاء فيه هو إعادة تصميم مفاعل "أراك" النووي الإيراني الذي كان قادراً على إنتاج كميات من مادة "البلوتونيوم" شديدة التخصيب، والتي يمكن استعمالها فوراً في إنتاج السلاح النووي، وتحويله إلى مفاعل للطاقة لا ينتج مواد قابلة للتصنيع العسكري مع إعطاء الوكالة الدولية للطاقة الذريّة حق الإشراف والمتابعة في عمل هذه المشاريع. ورغم ذلك، يرى الجمهوريون بقيادة ترامب أن ذاك الاتفاق لم يكن كافياً في ردع مشروع إيران النووي لذلك يعاد طرحه من جديد على طاولة البحث السياسي، ويمكن أن يشهد تطورات جديدة تعيد الأمور إلى نقطة السفر. إلّا أنّ إيران لا ترى في الواقع الجديد تهديداً لها، بل تعتبر أن إلغاء الاتفاق سوف يطلق يدها في تطوير مشروعها من المرحلة التي وصل إليها دون الأخذ باعتبارات الدول الموقّعة على الاتفاق. أمّا الأطراف الأخرى فلا يبدو أنّها تسير في ركب الموجة الأميركية الحالية، ومنها الدول الأوروبية الداعية إلى احترام الاتفاق. كما تظهر على الصعيد الشعبي مبادرات مثل تلك التي أطقلها "ريتشارد غاروين" الذي كان من المشرفين على مشروع تصنيع أوّل قنبلة هيدروجينية وصار اليوم من المطالبين بالحد من الأسلحة النووية، إذ وجّه عريضة وقّع عليها أكثر من 90 عالماً أميركياً معروفاً إلى الكونغرس لضمان بقاء بلادهم على التزاماتها بالاتفاق الموقّع.