طرفان بقيا حتى اللحظة الأخيرة لا يصدقان أن السعودية مقبلة على التشدد إزاء العهد وإزاء حزب الله: العهد نفسه والرئيس سعد الحريري.حتى لحظة تقديم الحريري استقالته، ظلت المكابرة تفرض إيقاعها على الطرفين؛ فالعهد ومستشاروه ووزراؤه ظنوا أن التسوية الرئاسية أقوى من العاصفة الاميركية والسعودية المقبلة على لبنان، وأن تفاهم نادر الحريري – جبران باسيل أفعل من أي قرار سعودي. الحريري لم يقتنع بأن القضية بالنسبة الى الرياض أصبحت أكبر من تفاهم نفطي وحصص في الاتصالات وسفراء يطلبهم الحريري من الوزير باسيل فيصدر مرسوم تعيينهم.

لم تكن عيدية السعودية للعهد في سنته الأولى أكثر من تظهير ما كان يدور في الرياض من توجه الى إحكام الضغط على لبنان، على إيقاع العقوبات الاميركية على حزب الله. وكان الموعد المعطى في حدّه الأقصى نهاية العام، تزامناً مع تغييرات كثر الحديث عنها أخيراً، تأتي بولي العهد الامير محمد بن سلمان ملكاً قبل نهاية العام أيضاً، علماً بأن ثمة من رأى في لبنان أن استقالة الحريري لم تسحبه فقط من المشهد اللبناني، بل السعودي أيضاً، تزامناً مع حملة التطهير السعودية. واللافت فيها من أسماء الأمراء الموقوفين ليس الوليد بن طلال فقط، بل أيضاً رئيس الديوان الملكي السابق خالد التويجري، الذي كان طرفاً في صفقة السلاح السعودي من فرنسا بقيمة ثلاثة مليارات دولار لدعم الجيش اللبناني عبر الحريري، وأوقفت لاحقاً.
تعدّدت السنياريوات التي طرحت لكيفية إخراج الحريري من التسوية الرئاسية، عند كل استدعاء تقوم به الرياض لمجموعة من الشخصيات اللبنانية، سواء عبر الاستقالة من الحكومة أو عبر إجراء الانتخابات النيابية بجبهة واحدة، وكلها تندرج تحت عنوان واحد: الحرب أعلنت على حزب الله، وهذا يعني أن لا تسوية معه أو مع حلفائه. لكن في كل مرة كان العهد والحريري أيضاً يحرصان على تأكيد أن لا تفجير للحكومة وأن التسوية باقية.

استقالة الحريري تسحبه من المشهد السعودي أيضاً تزامناً مع حملة «التطهير»



في الأسابيع الأخيرة، جرى كلام سعودي مفاده أن المحيطين بالحريري يأخذونه أبعد مما هو مسموح. وذكرت معلومات أن الحريري تبلغ ضرورة تغيير مستشاره نادر الحريري وإبعاده، خصوصاً أن الرياض ظلت تذكّر كل من يفاتحها بملف العلاقة مع العهد بأنها غضّت النظر عن التسوية ولم تدفع في اتجاهها، علماً بأن ولي العهد الحالي لم يستقبل رئيس الجمهورية إبان زيارة الأخير للرياض. لكن كلما تردد الحديث المذكور، زاد تشبّث الرئيس الحريري ومستشاره بترتيب صفقات داخلية مع العهد، في أكثر من مجال مالي واقتصادي. وهو الخط الأحمر الذي قفز رئيس الحكومة فوقه، ولم يتلقّف الإنذارات المتتالية تجاهه. وما فاقم موقف الحريري سوءاً لدى الرياض ما اعتبرته «هفوات متتالية» ارتكبها العهد في الموضوع السوري أو في موضوع علاقات لبنان العربية، والمكابرة المستمرة في غضّ النظر عن هذه الهفوات والمضيّ بها، في وقت كانت تصل فيه الى السعودية من حلفائها في لبنان أصداء سلبية عن مواقف الحريري وتغطيته في مجلس الوزراء وخارجه لما يجري، والصفقات الجارية، حتى بات اسم الحريري ونادر وباسيل على كل شفة ولسان من لبنان الى الرياض.
وتكمن أزمة الحريري اليوم في أنها مزدوجة؛ فهي من جهة سعودية، ومن جهة لبنانية في الجانب المتعلق بقوى 14 آذار. فشخصيات في قوى 14 آذار ترى أن المشكلة اليوم ليست حرباً مفتوحة بين 14 آذار مجتمعة كإطار شامل كما كانت الحال عام 2005، لكن لا يمكنها تخطّي ما يحصل باعتبار أنها متشددة في معارضتها لسياسة حزب الله والعهد معاً. ولا تنسى هذه الشخصيات واقع الحال مع الحريري بسبب تفرّده في اتخاذ قرارات لم تكن 14 آذار موافقة عليها؛ فهو تخلّى عن الكتائب وعن القوات اللبنانية حتى بعدما انتخبا معاً عون، وعن شخصيات 14 آذار المستقلين وعن نواب كثر لمصلحة حلفه مع عون وباسيل. وما يحصل اليوم قد يشكل مناسبة لإعادة تصحيح مسار داخلي يفترض أن يعود الى الإيقاع الذي سبق التسوية الرئاسية. وتحاول بعض هذه الشخصيات تخطّي واقع العلاقات التي تدهورت بينها وبين رئيس الحكومة الذي عادى حلفاءه في 14 آذار لمصلحة حلفه الجديد مع العهد، باعتبار أن الأزمة الراهنة خطرة الى الحد الذي لا يمكن معه التوقف عند الاعتبارات الشخصية والسياسية التي طغت على العلاقة بينهم وبين الحريري. فسارعت شخصيات 14 آذار الى تأكيد وقوفها الى جانبه، ومنهم من كان إعلام الحريري قد تناساها، فعاد الى تعويمها مجدداً للتضامن مع الحريري، كأحد رموز 14 آذار.

أزمة العهد

الأكيد أن الرئيس الحريري ليس الرئيس فؤاد السنيورة، الرجل الذي حاصرته التظاهرات في السراي الحكومي وواجه أحداث 7 أيار. اليوم يستقيل الحريري، فيعود السنيورة الى الواجهة، وهو الذي يخوض حرباً صامتة مع العهد، ليعبّر عن الحالة الحقيقية لتيار المستقبل التي ظلت صامتة طوال سنة. والأكيد أن الظروف الحالية لا تشبه الظروف عام 2009، لأن الاستقالة تأتي في ظل وجود رئيس للجمهورية في قصر بعبدا، يواجه أولى أزماته الفعلية، محلياً وإقليمياً ودولياً.
فالاستقالة تهدّد العهد، مهما كابر أيضاً منظّروه، خصوصاً أنه لم يسلّف أحداً حتى الآن خلال سنة من الحكم، حتى تتضامن معه القوى السياسية، إلا تحت عنوان الحفاظ على الاستقرار بكل المعايير الخطرة التي تتحكم اليوم في الساحة الداخلية. وبعض الذين تواصل معهم رئيس الجمهورية للإسهام في التهدئة، هم أنفسهم الذين خاصمهم العهد في ملفات عدة: الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط ورئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع ورئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية. ومهما كانت الاعتبارات الإقليمية التي تفرض إيقاعاً معيّناً على هذه الشخصيات، فإن أزمة العلاقة مع العهد خلال سنة تضاعف من حدّة الواقع الحالي، لأن العهد يحتاج اليوم الى أكثر من تغطية حزب الله له، وقد ظهر جلياً أن لا تغطية مسيحية له، لا من بكركي ولا من القوى المسيحية، ولا سند يحميه بعدما ذهب بعيداً في إبعاد كل القوى السياسية، فيما هو يحتاج اليوم الى الدور الذي كان يلعبه بري أو جنبلاط محلياً وإقليمياً في إعادة ضبط الساعة الداخلية على التهدئة. لكن المشكلة أن صدمة قوية كالتي حصلت كان يفترض أن تؤدي الى أن يستعيد العهد بعضاً من هدوئه وهدوء المقرّبين منه، إذ لا يعقل أن تستفيق البلاد على مفترق خطر كالذي حصل في الشكل والمضمون، فيما رئيس التيار الوطني الحر ووزراؤه يدعون الى تسجيل المنتشرين للمشاركة في الانتخابات! في وقت بدأت تدعو فيه دول عربية الى سحب رعاياها من لبنان وتتصاعد الضغوط عليه.