باءت محاولات تسعير أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري بالفشل، إذ لم تتمكن هذه الحملة من تعبئة رؤوس الأموال، الموصوفة عالمياً بـ«الجبانة»، ودفعها إلى مغادرة لبنان. ولليوم الثاني على التوالي، لم يسجّل خروج دولار واحد من لبنان، فيما شهدت سوق القطع تراجعاً في الطلب على الدولار إلى نصف ما كان عليه الاثنين الماضي، أي أن الطلب الفعلي لم يتجاوز 200 مليون دولار، من ضمنها الطلب التجاري الاعتيادي المقدّر بنحو 50 مليوناً.
وبحسب مصادر مصرفية، فإن سبب الطلب المسجّل في السوق أمس يتعلق بسلوك مصرفين ورغبتهما في تجميع طلبات الزبائن على الدولار من يوم الاثنين إلى يوم الثلاثاء، ما ترك انطباعاً بأن هذين المصرفين كانت لديهما رغبة في لعب دور أكبر من حصتهما السوقية في سوق القطع. غير أن مصارف أخرى كانت قد بدأت بإجراءات ذاتية لمكافحة الطلب على الدولار ونصحت الزبائن بالتريث في اتخاذ القرارات المتعلقة بالطلب على الدولار أو بالتحويل إلى الخارج.
وجاءت هذه التطورات بعد ساعات على صدور تعميم عن مصرف لبنان يشدّد الإجراءات ويضع قيوداً على تداول النقد والعمليات المصرفية اليومية. وبحسب مصادر مصرفية، فإن مضمون التعميم يأخذ في الحسبان ثلاث نقاط أساسية على النحو الآتي:
ــــ طلب مصرف لبنان من المصارف منع تحريك الحسابات المجمّدة، قبل فترة الاستحقاق. وهذه الخطوة كان مصرف لبنان قد اتخذ مثلها في أوقات الأزمات الكبيرة مثل حرب تموز.

مصرف لبنان يمنع تحريك الحسابات المجمّدة وحسم السندات


واستعمالها في هذه المرحلة يعدّ خطوة متقدمة في اتجاه التوقعات السياسية وتطورات الأزمة التي خلقتها السعودية من خلال دفع رئيس الحكومة سعد الحريري إلى الاستقالة.
ــــ مصرف لبنان أبلغ المصارف الامتناع عن حسم السندات. وهذا يعني أن المصارف التي تحتاج إلى سيولة إضافية لن يكون بإمكانها اللجوء إلى تسييل السندات لدى مصرف لبنان. والهدف من هذا الإجراء تقليص المبالغ المتداولة في السوق إلى حدّها الأدنى لأن الطلب على الدولار سببه أصلاً وجود مبالغ بالليرة مستثمرة في أدوات دين أو مودعة لدى المصارف. لكن لهذا الإجراء مضاعفات على الفائدة بين المصارف أو ما يعرف بالـ«انتربنك». فمعدل هذه الفائدة لم يكن يتجاوز 4% خلال الفترات العادية، أما أمس فارتفع إلى أكثر من 10%، ويتوقع أن يرتفع أكثر اليوم ليبلغ 15%. وبحسب المصادر، فإن مؤشّر فائدة «انتربنك» ليس خطيراً طالما أن النقد المتداول تحت السيطرة. إذ سيكون مكلفاً على المصارف الاستدانة من بعضها البعض.
ــــ من الخطوات المهمة التي أخذها مصرف لبنان لكبح الطلب على الدولار أنه فرض على المصارف تحصيل المبالغ الناتجة من طلبات شراء الدولار من قبل الزبائن مباشرة. العرف كان يقضي بأن يمهل الزبون 48 ساعة لإيداع المصرف المبالغ بالليرة، مقابل طلبات شراء الدولار، والمصرف كان يحجز الدولارات المطلوبة منه مسبقاً قبل أن يسدّد الزبون خلال 48 ساعة، لكن اليوم بات الدفع فورياً.
في المقابل، حاول الوزير السعودي ثامر السبهان استكمال حملة التهويل التي أطلقها في الساعات التالية على استقالة الرئيس سعد الحريري. ومن أبرز معالم هذه الحملة، تماهي وكالة التصنيف الدولية «موديز» سريعاً مع الخطوات السعودية من خلال إصدار بيان غريب في توقيته ومضمونه. إذ جاء بعد ساعات على إعلان استقالة الحريري من الرياض، أما مضمونه فهو في غالبيته تكرار لوضع لبنان المعروف منذ أشهر، بالإضافة إلى الحدث الأخير المتعلق باستقالة الحريري المعروفة الخلفيات والأهداف.
في هذا الإطار، حذّرت «موديز» من خفض تصنيف لبنان بعد إجرائها تقييماً للمخاطر السياسية، رابطة الخفض بطول مدّة الأزمة الراهنة. واللافت أن الوكالة فسّرت رغبتها بالإشارة إلى ما ورد في خطاب استقالة الرئيس الحريري من الرياض عن تهديدات أمنية وعن الشق المتعلق بالتوسع الإيراني في المنطقة العربية. لا بل ذهبت في اتجاه التذكير بما قدمته السعودية من نصح للحكومة اللبنانية بقطع العلاقات مع حزب الله، وأوردت في السياق أن السعودية «خصّصت مساعدات للجيش اللبناني بقيمة 3 مليارات دولار، فيما عمل حزب الله على توتير الوضع جنوباً وزاد مخاطر اندلاع مواجهات مع إسرائيل». وأشارت الوكالة إلى أن «الحكومة اللبنانية واقعة تحت الضغط الأميركي الرامي إلى عزل حزب الله»، لافتة إلى «تعديلات على القانون الأميركي لزيادة منسوب العقوبات على الحزب وشبكته المالية». وقالت إنه رغم تصريح رئيس جمعية المصارف جوزف طربيه بأن هذه العقوبات لا تؤثّر على القطاع المصرفي، فإن «المصارف المحلية ستواجه مستوى أعلى من الرقابة والتدقيق ومعايير الإبلاغ (في إشارة إلى علاقتها مع مصارف المراسلة الأميركية). إن أي خسارة في الثقة بالقطاع المصرفي أو في الاستقرار المؤسساتي في لبنان تقود نحو تراجع ملحوظ في القطاع الخاص وتدفقات رؤوس الأموال إلى لبنان، نظراً إلى الاعتماد على المصارف في التمويل، ستكون له عواقب».
الردّ على «موديز» وتفسيراتها جاء في بيان صادر عن جمعية المصارف بعد اجتماع مجلس إدارتها الدوري. وذكر البيان أن المجلس «أجرى تقييماً عاماً للتطورات التي أعقبت استقالة رئيس الحكومة»، معرباً عن تقديره لـ«تعاطي كافة المسؤولين مع هذه الاستقالة، وبخاصة مواقف فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس النواب، والتي اتّسمت بقدر عال من الحكمة والرويّة وحسّ المسؤولية الوطنية. وأثنت الجمعية على مواقف جميع الفاعليات الروحية الممثلة لمختلف مكوّنات النسيج الاجتماعي اللبناني، لما انطوت عليه من حرص واضح ومطمئن على الوحدة الوطنية وعلى صون الاستقرار بأبعاده السياسية والأمنية والاقتصادية». وأبدت الجمعية ارتياحها «الكبير» لردّة فعل الأسواق إزاء التطورات السياسية الأخيرة، مشيرة إلى أن الأسواق برهنت عن «استقرار الأسعار في سوق القطع وحركة السوق الاعتيادية».