قبل وفاة روبرتو بولانيو بأيام، ترك لدى ناشرهِ روايةً توشك على النهاية، وأرادها أن تنشر في سلسلة من خمس روايات ليضمن مستقبل ولديه المالي. إنه نفسه عدد فصول رواية «2666» التي نشرت بعد وفاتهِ بعام واحد في مجلد يضم الأجزاء الخمسة احتراماً للقيمة الأدبية للعمل، والتي ستصدر الشهر المقبل بالعربية عن «منشورات الجمل» (ترجمة رفعت عطفة)، بعدما أصدرت الدار أخيراً روايته «رجال التحري المتوحشون» و«حلبة الجليد» للمترجم رفعة عطفة الذي نقلها عن الإسبانية.
علماً أن «دار التنوير» أصدرت روايتين للكاتب هما «تعويذة» (ترجمة أحمد حسان) عام 1999، و«ليل تشيلي» (ترجمة عبد السلام باشا) عام 2014.
ضمن الملاحظات التي تركها بولانيو عن «2666»، يذكر أنّه يخفي وراء الأقسام الخمسة نقطة التلاقي من دون أن يشير إليها. يرى النقاد نقطة التلاقي في روايتهِ «رجال التحري المتوحشون» حيث تكتشف إحدى الشخصيات مقبرة منسية تعود لعام 2666. وتبدو نقطة التلاقي في الرواية نفسها مدينة على الحدود الشمالية للمكسيك، تسمى سانتا ترسا ويلتقي فيها جميع الشخوص في لحظة مجهولة بعدما تباعدوا في السرد. تعتبر الرواية الضخمة نسيجاً رقيقاً من الموضوعات المتكررة حول الجرائم الجنسية والعنف، إذا ما استثنينا الفصلين الأول والأخير اللذين يتحدثان عن كاتب ألماني. تتنقل الأحداث في ثلاث قارات، تشهد حربين عالميتين وحرباً باردة وانهيار جدار برلين ثمّ انهيار البرجين العالميين. يُعمل بولانيو قلمهُ على امتداد عشرات السنوات، يكتب بغزارة وسلاسة، في دفق غني وسرد ثري وعبر جمل قوية ومباشرة. إنّه من أولئك الكتّاب الذين يضعون العالم بين أيديهم، ثم يكتبون مصيرهُ كما لو أنّ عشرات السنين ما هي سوى حدث طارئ على صفحات رواية محبوكة، مشغولة على سويات متعددة. وللمفارقة رواية غير منتهية!
يتخذ بولانيو من الكاتب العبقري المجهول أرشيمبولدي، ذريعة للقاء النقّاد بيليتر وموريني وإسبيوزا ونورنون في سعيهم للوصول إلى حقيقة كاتبهم الأثير عبر المؤتمرات والعواصم والندوات. ما يلبث القارئ أن يجد في مسار بحث مجموعة المهتمين مسباراً لكشف ذواتهم، ومجالاً يكشف تفاعلاتهم النفسية والعاطفية إزاء بعضهم البعض. تمارس نورنون الجنس مع كلّ من بيليتر وإسبيوزا، ويفكر الثلاثة بجنس ثلاثيّ. هناك أيضاً أستاذ الفلسفة أمالفيتانو الذي يعيش في سانتا ترسا. سيروي بولانيو حياته في القسم الثاني، وقد سارت وفق عدوى جنونية وصلتهُ من زوجتهِ التي هجرته لتنقذ شاعراً من تهمة المثلية. يكتسب أمالفيتانو صراعاً مع أشباح. يعلّق كتاباً على حبل الغسيل، كي يختبر مقاومة الكتاب للطبيعة، وكي يتسنى للريح تصفحهُ. وإن كانت الأجزاء تتسم بنهايات مفتوحة، فإنّها تبدأ كذلك بدايات متباعدة، تربطها شخصيات قليلة، فيما تمثل عشرات الشخصيات التي تظهر وتختفي من دون أن تترك آثارها في جوهر النص. هكذا يتحول الجوهر، إلى ذلك الحشد الغزير من الشخصيات والانفعالات والقصص الفرعية التي لا تلتقي، عن تجارب ناس مهووسيين، وخطأة، وعصاة، لا يشكل الجنس محركاً لأفعالهم وحسب، بل يمتازون بنزوع إلى عنف مجرد، أو ذلك العنف الذي يتأتى من العواطف إما تجسيداً أو نكراناً لها. يتحدث الفصل الثالث عن صحافي أميركي يجيء إلى المكسيك من أجل تغطية لعبة ملاكمة، وليكتشف وباءً مجهولاً، وهو انتشار ظاهرة غامضة من الجرائم الجنسية. في قسم الجرائم الذي يشكّل الجزء الأكبر من الكتاب، يسرد بولانيو قصص عشرات الجرائم بين عامي 1993 و1998، يصف عمليات القتل بالوتيرة ذاتها، يعلل ذلك على لسان إحدى شخصياته بأنّ «سر العالم» يكمن في تلك الجرائم. تتوزع أجساد النساء المقطعة، والمغتصبة على هوامش الطرق، في الحاويات، في الأكياس أو في العراء، بلباسهن أو بلباس غيرهن أو عراةً، نساءً مهملات، نادلات، أو يعملن في الدعارة. يحدث كل هذا في ظل لامبالاة ذكورية، وقصور في عمل الشرطة، واحتجاجات لحركات نسائية، وتغطية خجولة من صحف العاصمة. وهرباً من كل التحليلات لهذه الظاهرة الغامضة، تقول إحدى الشخصيات إن التفسير الوحيد لها هو «الخراء». أي، بكلمات أكثر عقلانية، يبرز أدب بولانيو، كمواساة صاخبة وشرسة ليتم العالم وفراغهِ. في القسم الأخير لا يحاول بولانيو جمع شتات الفصول السابقة، بل يبدأ حكاية جديدة بدت أنّها أصل الحكايات. هنا يتحدث عن كاتبهِ الألماني هانز رِيْتِر الذي نشأ لأم عوراء وأب أعرج، وله أخت وحيدة، سنعرف أنّها والدة المتهم الرئيس في قضية جرائم النساء. وانطلاقاً من اعتقاده بأن «الشهرة والأدب عدوان لدودان»، يترشح رِيْتِر لجائزة نوبل في سنواتهِ الأخيرة، ويبقى متخفياً، يعمل في الحدائق ولا يكترث لظهور علني باسمه الحقيقي. وبعدما قالت له عرافة بضرورة تغيير اسمهِ، نبت إلى ذهنهِ وهو أمام الناشر ودون تحضير مسبق الاسم الذي يعرف بهِ، وهو بِنّو فون أرشيمبولدي. في رواية بولانيو التي قدم فيها كلّ شيء؛ ليست «الثقافة نداء الدم» وحسب، بل يظهر الحب أيضاً نداءً للدم، للرغبات، والغرائز الحية.