«ليس من الفضيلة بشيء أن تقتل مواطنيك، أن تخون أصدقاءك، وأن تكون بلا ايمانٍ ولا شفقةٍ ولا دين. يمكن للرجل، عبر هذه الوسائل، أن يحظى بالسلطة بالفعل، ولكنه لن ينال المجد»نيقوليو ماكيافيللي، «الأمير»

الاقتباس أعلاه لماكيافيللي اختاره المؤرّخ ستيفن كوتكين في تقديم كتابه الجديد عن حياة ستالين، وهو الجزء الثاني من ثلاثية (وقد أمّنه لنا جميعاً، فوراً ومجّاناً، القراصنة النبلاء على الانترنت ــــ الأممية الأخيرة في هذا العالم).

الكتاب له قصّة أخرى ولكنّ كلمات ماكيافيللي تصلح، حقيقةً، كتحذيرٍ لمحمد بن سلمان وبطانته في لبنان أكثر مما هي تنطبق على موضوع كوتكين.
بعيداً عن الكلام المعسول عن سعد الحريري، و«تضامننا» معه في محنته، وتوق الشعب اللبناني لتحريره، الّا أنني أعتبر أن هناك جانباً واحداً في هذه القصّة يثير، بالفعل، التعاطف والأسى تجاه سعد الحريري، بالمعنى الشخصي والانساني. لا شيء في الحياة (الخسائر المادية، فشل المشاريع، عاديات السياسة) يمكن مقارنته بأن يقوم أصدقاؤك وأقرب الناس اليك بطعنك في ظهرك وخيانتك، فيما انت في أقصى حالات الضّعف، وهذا تحديداً ما جرى مع سعد الحريري. الجانب الـ«ماكيافيللي» (بالمفهوم «الشعبي» للتعبير) للقصّة هو في قيام أبرز رجال الحريري، من عقاب صقر الى نديم قطيش الى غيرهما، بتغطية احتجازه في الرياض، والإصرار على أنّ الحريري حرٌّ وبخير ولا يحتاج للسؤال عنه ــــ فيما هو محتجزٌ، ولا يعرف أحد ما يجري معه وما يتعرّض اليه.
كان من الطبيعي لسياسي مثل أشرف ريفي أن يستغلّ الموقف ويبايع محمّد بن سلمان في سياسته اللبنانية الجديدة، فهو خصمٌ ومعزول وهذه فرصته؛ ولكن تخيّل أن يقوم أقرب أصدقائك وحلفائك ومعاونيك بالتآمر عليك؛ ونحن هنا لا نتكلّم على خيانة سياسيّة أو خلاف مالي مثلاً، بل هم يتآمرون ــــ حرفياً ــــ على وضعك في السّجن! المفارقة الأكبر هي أنّ الحريري قد «صنع»، بمعنى الكلمة، هؤلاء النّاس. لم يكونوا شيئاً فجعل منهم الحريري سياسيين ووجوهاً ومحظيّين اثرياء، فباعوه في نصف ثانية. هم وقفوا مع سجّانه وأصبحوا، حين تحاول عائلة الحريري انتشاله وانقاذه ونسج الوساطات في الداخل والخارج للمطالبة به، يصرخون بأنّ نتركه وشأنه، وأن الكلام عن احتجازه هو كذبٌ وافتراء على «مملكة الخير»، ويرسلون الصحافيين لاجراء مقابلة\مسرحية معه، ويوعزون لآخرين حتى ينشروا اشاعاتٍ تبرّر اسقاط سعد واستبداله. الإحراج الحقيقي سيكون لو عاد الحريري الى لبنان، بعد تسوية وضعه مع الرياض، وأُجبر على التعايش مع هؤلاء مجدّداً، وحاولوا أن يشرحوا له أن سلوكهم طوال هذه الفترة كان ــــ على عكس ما توحي به المظاهر ــــ حرصاً على الحريري ودفاعاً حاذقاً عن مصالحه، وأنهم فعلوا ما فعلوه لأجله فحسب ووفاءً للصداقة (وهو، وهنا جزءٌ من مأساة لبنان، قد يصدّقهم). في كلّ الأحوال، مهما جرى في المستقبل، ومهما سمع اللبنانيون من معسكر السعودية كلاماً عن «السيادة» و«لبنان أوّلاً»، فإنّ عليهم ــــ على الدّوام ــــ تذكّر ما جرى خلال الأسبوعين الماضيين في الرّياض، وأن لا ينسوه ابداً.

أبعد من بيروت

في عددها الجديد، نشرت دوريّة «ذا ناشيونال انتيريست» الأميركية المحافظة مقالاً لتريتا بارسي عنوانه يشرح مضمونه «السعودية تريد مقاتلة ايران حتى آخر أميركي». بارسي له أجندته، فهو رئيس «المجلس الوطني الايراني الأميركي»، اللوبي الذي يسعى الى تهدئة العلاقة بين أميركا وطهران، ولكن المقال احتوى نقطةً صحيحة ومهمّة. من الوهم تفسير الجهد السعودي المحموم، و«الغضب» والتحشيد والتحالف العلني مع اسرائيل، على أنّه محض انعكاسٍ لصراعٍ طائفيّ\ ديني تقود السّعوديّة أحد محاوره، أو أنّه ــــ وهذه فرضية لا تستقيم ايضاً مع الوقائع والتاريخ القريب ــــ اشكالٌ بين «عربٍ وفرس» أو جزء من «حربٍ ضد الارهاب والتطرّف». المسألة هنا جيوسياسية بالكامل، يقول بارسي، وهي تتعلّق بمنطقةٍ متغيّرة وموازين قوى جديدة لا تريد الرياض أن تقبل بها، وأملها الوحيد اليوم هو في دفع الولايات المتّحدة الى العودة عسكريّاً الى الاقليم وإعادة تأسيس «باكس اميريكانا» مباشرةً في بلادنا، يضع السعودية واسرائيل في المقدمّة، كما كان الوضع ــــ على مدى عقودٍ ــــ قبل حرب العراق.
في ظلّ «النظام الاميركي» الذي قام منذ الثمانينيات في الشرق الأوسط، واعتمد على «الاحتواء المزدوج» لايران والعراق، ورعاية «عملية السلام» في فلسطين، تمتّعت تل ابيب والرياض «بحدّ أقصى من الأمن وهامش المناورة» يكتب بارسي. ايران حاربت بكلّ قواها لمنع هذا النّظام (الذي يعزلها ويمهّد لاسقاطها) من الاستقرار، يضيف الكاتب، ولكن ما دمّر التّوازن لم يكن مجهوداً ثورياً ايرانياً، بل غزو اميركا للعراق وحربها «الفاشلة»، التي أدخلت الاقليم في مرحلة «إعادة تشكيلٍ» وجعلت واشنطن تتجنّب التورّط العسكري المباشر في منطقتنا مجدداً (وهذا، تحديداً، هو لبّ النّقد الذي يوجّهه الكثير من المثقفين العرب، «اسلاميين» و«حداثيين»، للسياسة الأميركية، حين يكتبون عن «ضعف اوباما» و«تسيّبه»، ويتّهمونه بـ«خيانة» القضايا التي يتبنّونها ــــ هم ايضاً يحلمون بـ«الزمن الجميل» حين كان جورج بوش يرسل جيوشه الى بلادنا، والمساكين يعتقدون أن المشكلة هي في شخصية اوباما، وليست في اختلاف الزمن والسياق).
ما يجري، اذاً، هو أنّ واشنطن كانت قد أرست «هندسة أمنية» في اقليمنا، منذ عام 1982 على الأقلّ، تكون هي على رأسه وتنسّق فيه بين اسرائيل والسعودية ومصر لحكم المنطقة والهيمنة عليها. واليوم تجد الرياض نفسها مضطرّة للتنافس في ميدانٍ مفتوحٍ متغيّر، فتجعل حلفها مع تل ابيب مباشراً وعسكرياً، وتحاول جرّ اميركا من جديد الى المعركة ــــ أو تستجدي، في غياب ذلك، حرباً اسرائيلية على لبنان (ولا داعي لأن نشرح تداعيات هذه الجبهة الصهيونية ــــ السعودية على فلسطين وقضيتها). العبرة هنا هي أنّ الفارق بين الأمس واليوم ليس نوعيّاً: تل ابيب كانت تعمل مع باقي الدول «المعتدلة» في المنطقة بوساطة «المايسترو» الأميركي وهي اليوم تفعل ذلك مباشرة. ومن يتأمّل بأن داعمي النظام السعودي (من الناس والنّخب) سيصابون بـ«صدمة» وينقلبون ضدّ آل سعود أمام مشهد التعاون المباشر مع الصهاينة يحضّر نفسه لخيبة كبرى؛ فالأمور واضحةٌ لمن يريد أن يرى منذ أمدٍ بعيد.

حكاية لبنانية

بالحديث عن السعودية وحلفائها وموظفيها في الاقليم، كان من الطريف متابعة الصحافة السعودية وكتّابها ومنظّريها المشرقيّين، وكيف تعاملوا مع الحدث السّعودي واللبناني (أو، بالأحرى، كيف تجنّبوا أيّ كلامٍ عنه). تجري أمامنا أحداثٌ تاريخيّة تزلزل بنية الحكم في المملكة، وهيجانٌ سياسي، ورئيس وزراءٍ مختفٍ، ولا تسمع منهم تعليقاً أو رأياً. هؤلاء يدبّجون عشرات المقالات لو ظهر مواطنٌ على التلفاز يشتم حزب الله، وينظّمون حملة إعلامية من أجل «بوست» على «فايسبوك»، ويجعلونه محور السياسة اللبنانية، وحين يجدّ الجد؟ لا شيء. لا تعليق، لا مقال، لا تحليل. فلنكتب جميعاً عن كاتالونيا! هذا يثبت مقولة أحد الأصدقاء عن أنّ حياة من يقوم بخدمةٍ ايديولوجية مقابل راتب هي دوماً صعبة وبائسة، فهو يقضي حياته كاملةً في التبرير (أمام نفسه والآخرين). لو كان مجبراً على الصّمت ولا يجرؤ على التعليق على الأحداث خوفاً من قول «شيءٍ خطأ»، فهو مضطرٌّ لأن يبرّر لماذا هو صامت. ولو انخرط في حملة الدعاية حتى يستحقّ راتبه فعليه أن يبرّر لماذا هو يتكلّم، وأنّه لا يدافع عن سياسات الأمير ــــ هذا محض «تقاطع» ــــ بل هو يدافع عن الحداثة أو الديمقراطية أو الطائفة، الخ (وضريبة هذا المسار هو أن لا تكون يوماً في سلامٍ مع نفسك، وأن لا ترتاح الّا حول من يشبهك، وأن تطوّر عدائيّةً تصل الى درجة الشخصنة تجاه كلّ من يمثّل النموذج النقيض لك، ويذكّرك ــــ بمجرّد وجوده ــــ بوضعيتك).
حين يعود الحريري، يجب أن نتذكّر أنّ القضيّة أكبر من لبنان، وإرادة الفاعل المحلّي هنا محدودة للغاية، بخاصّة كلّما ارتفع في صفوف النخبة أو زاد ارتباطه بالمال والسياسة في الإقليم. ولكنّ هناك جانباً لبنانيّاً للقصّة يستحقّ أن يروى. في سنوات التسعينيات، مع ترسّخ نظام «الطائف» والتسوية الغربية ــــ السورية ــــ السعودية على أرض لبنان، كان أكثر المواطنين ينظر الى النّظام كـ«كتلةٍ»، من دون اعتبارٍ لمكوّناته الطائفيّة. هذا بمعنى أنّ المواطن كان يشكو من الغلاء والضرائب وسياسات السنيورة بغضّ النّظر عن الفريق الذي ينتمي اليه وزير المال أو طائفته، بل كان يراه جزءًا من كلّ أو «حزمةٍ حاكمة» (المعارضة الفعلية للنظام، حينها، كانت تقتصر على الأحزاب المسيحية التي تمّ اقصاؤها بعد الحرب، وظلّت خارج المنظومة السياسية بالكامل).المفترق الرئيسي في السياسة اللبنانية والعلاقات بين الطوائف لم يكن عام 2005، بل في أواخر التسعينيات حين خرج رفيق الحريري من الحكومة، واختلف مع الرئيس الجديد، ثمّ عاد ــــ بمنصّةٍ طائفيّة ــــ ليكتسح المجلس النيابي عام 2000 (في أوّل حملة انتخابية بعد الحرب تجري، علناً، على أساس التحشيد المذهبي).
يومها، حين أُخرج الحريري من الحكم، استدعى العون الطائفي (مع أن القضية كانت قضية خلاف داخلي بين النخب، وصراع أجنحة في دمشق، ولا علاقة له بالطائفة والدين)، وكان خطابه المضمر «أنا العنصر السّنيّ في الحكم وأنا أتعرّض الى الاضطهاد وأحتاج الى أصواتكم»، وكانت النتيجة في الصناديق باهرة (و، على المدى البعيد، مأسوية). أذكر أنّ أبرز الحجج التي سيقت حينها لتبرير دعم من كانت سياساته محلّ انتقاد الجميع، هي أنّ خروج الحريري من الحكم ومجيء زعيمٍ «ضعيف» مكانه «يحطّ من مقام رئاسة الوزراء». «الشيفرة» الطائفية هنا واضحة، والحجّة تشبه «فيتو» يغلق النقاش، ويقصي حسابات السياسة والمصالح والوطن والمواطنين. مضت الأيّام وجرت مياهٌ كثيرة وتخلخل النّظام وأصبح لكلّ طائفةٍ «مقامات» تتماهى معها؛ واستخدم الخطاب ذاته حول الموارنة ورئاسة الجمهورية، وقد نسمعه غداً عن الشيعة والدروز. ولكن ما سيبقى للتاريخ هو أنّه بهذه المقاييس، ومنذ استقلال لبنان، لم يتعرّض «مقام رئاسة الوزراء» يوماً الى الحطّ والإذلال الذي جرّته عليه الرياض في الأسبوعين الماضيين.