هذه المرة، توسّع إنعام كجه جي (1952) فتحة الفرجار إلى أقصاها، في رسم خرائط المنفى. تحفر في تاريخ العراق الحديث، تستحضر زمناً متوهجاً عاشته «تاج الملوك عبد المجيد» في ظل الحقبة الملكية، أول صحافية عراقية اخترقت أسوار القصر الملكي، وصاحبة أول مجلة في بغداد، قبل أن تطيحها المنافي من جغرافيا إلى أخرى.
في روايتها الجديدة «النبيذة» (دار الجديد- بيروت) تدلق الروائية العراقية المقيمة في باريس، صور صندوق ذكريات «تاجي». وإذا بنا حيال شخصيات مؤثرة عايشتها تلك المرأة بأسمائها وجنسياتها المتعددة، تبعاً لتحولات سفينة حياتها الموشكة على الغرق في شيخوختها. إنها المرأة التي نبذتها ظروفها، وربما المعتّقة مثل زجاجة نبيذ نادرة. ذلك أن رحلتها التي تمتد من عشرينيات القرن المنصرم إلى اليوم، واجهت عواصف عاتية، كصورة موازية للريح التي عصفت ببلادها، فبغداد الأمس لا تشبه صورتها اليوم، كما سترويها «وديان الملّاح» عازفة الكمان الصمّاء، إثر حادثة تعرضت لها على يد أحد الطغاة الجدد في بغداد «البعث» بكل سرياليتها.

تعويض هزائم اليوم،
بأمجاد الأمس الملكي


تلتقي الشخصيتان في باريس بالمصادفة، لكن رائحة الهواء الأول تجمعهما كأم وابنة. الأولى تروي مغامراتها العجيبة، من بغداد إلى كراتشي، إلى باريس. وستتدفق صور رجال مرّوا بحياتها، مثل الوصي على العرش عبد الإله، ونوري السعيد، وكيف وقفت موديلاً أمام الرسّام أكرم شكري، وصولاً إلى الشاب الفلسطيني منصور البادي الذي أتى بغداد الخمسينيات بعد نكبة فلسطين، ثم سفرهما معاً إلى إذاعة كراتشي الناطقة بالعربية، واشتعال الحب بينهما، قبل أن يفترقا قسراً. صورة فوتوغرافية التقطها لحبيبته وهي تتكئ على جدار الباخرة في رحلتها إلى طهران، أيقظت حواسها النائمة بوصوله إلى باريس مرافقاً الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز بوصفه مستشاراً له، بعدما قذفته أنواء الهجرات إلى كاراكاس، ليصبح هناك بروفيسوراً مرموقاً. سوف تهرب تاج الملوك من هذا اللقاء إلى مدينة أخرى، خشية انكسار صورتها في مخيلته، بتأثير شيخوختها وانحناء ظهرها من النكبات. تنصت وديان إلى تاج الملوك بذهول، إلى ثراء تجربتها وحياتها العجائبية، كأن من تروي هي شهرزاد أكثر منها امرأة حقيقية، لفرط اتساع خيالها، مقابل فقر تجربة وديان وهشاشتها في مواجهة قدرها، ووحشة فراشها. قصة حب يتيمة مع يوسف في بغداد، انتهت بفجيعة عاطفية، ثم خواء تام في باريس. تدندن تاج الملوك مقطعاً من أغنية سليمة مراد «يا نبعة الريحان» فتحسّ وديان بأنها ريحانة ذابلة إلى الأبد. كأن صاحبة «طشّاري» أرادت تعويض هزائم اليوم، بأمجاد الأمس الملكي، وزمن التظاهرات ضد الإنكليز، وهبوب ثورة 14 تموز.
تفكّك صاحبة «الحفيدة الأمريكية» مدوّنة العراق، وآلام المنفى، ذهاباً وإياباً، تدخل نفقاً مظلماً تارةً، وتضيء إشراقات أوقات البهجة طوراً، كما ستنمنم طبقات السرد بعبارات عامية، تأتي من باب الحنين للمكان الأصلي، وردم الهوّة بين زمنين ولغات مختلفة، وتراتيل مقدّسة، وعلى الضفة الأخرى تعيش وديان الملاح تيهاً بلا ضفاف كضحية نموذجية لنزوات طاغية صغير دمّر حاضرها ومستقبلها، إلى درجة الانخراط بحلقات حوار الأديان، وسؤال الشيوخ عن حكم سماع الموسيقى!
«النبيذة» لإنعام كجه جي ــ دار الجديد- بيروت